ارنو دائما الي لحظة ثقة بالواقع والمستقبل, ولذلك كنت واحدا ممن يتجاهلون حالة الضجيج الصارخ الذي يستغني فيه البعض عن حكمة التفكير المتوازن ويرقص علي رقعة من نيران الغضب دون ان يتلفت حوله او يري حقيقة ما تحتاجه حياته. ولكي اثبت يقيني هذا, اوثر دائما ان ازور دار الكتب بباب الخلق مرة علي الاقل كل شهر, فهي بيت الحكمة التي صارت متحفا رائعا, يضم بجانب المخطوطات بعضا من اندر الموسوعات في الفنون. وألمس انشراح القلب كلما اقتربت من هذا المبني الذي يتوسط القاهرة, فهو يمثل للذاكرة الكثير والكثير. اتذكر بداية صداقتي الي هذا المبني والذي صار قصة حب اساسية في ايام العمر, فمنذ نصف قرن من الزمان جئت من الاسكندرية اقيم بالقاهرة, وعشاق المعرفة والفنون السكندريون تحفظ اقدامهم عن ظهر قلب موقع مكتبة البلدية فيها, والتي تتجاور مع متحف الفنون الجميلة, ولا تبدع سوي خطوات غير بعيدة عن مسرح سيد درويش والذي صار حاليا اوبرا الاسكندرية. وكنت من عشاق الاماكن الثلاثة, فالمكتبة قادتني الي حقيقة واضحة هي كيف تمد جذور افكارك في التاريخ؟ ومتحف الفنون الجميلة هو الذي يهديني معرفة وصداقة مع ثلاثة يمثلون في حياتي حقائق ناصعة, فعن طريق لوحات سيف وادهم وانلي يمكن لعيوني ان تعبر البحر المتوسط الي اوروبا واري عبر الوانه كيف اذاب هو وشقيقه ادهم كل اساليب الفن المعاصر ليجعلها في متناول العين المصرية ومن خلال حياة المصريين العاديين, وطبعا لا انسي له دعوتي كي نذهب مع شلة اصدقاء كي يرسم بضعا من قوارب بحيرة مريوط, التي تمرح بين اعواد الغاب تصطاد العديد من الاسماك. ولن انسي ما اضافه لي الفنان حامد عويس مدرس الرسم بالاسكندرية الثانوية ثم الاستاذ بالفنون الجميلة, هذا الذي شهد بلوحاته وألوانه رحلة الاسكندرية لتصبح المدينة التي تملك ذوقا رفيعا هو خلاصة البحر المتوسط وتظل لوحة حامد عويس التي تصور محطة الترام في كليوباترا اثناء خمسينيات القرن الماضي حية في ذاكرتي استدعيها عندما يدهمني زحام الاسكندرية الخانق حين اقوم بزيارتها في ايامنا تلك. وكيف لي ان انسي استاذ رأفت وهو يناديني فور دخولي الي مكتبة البلدية ليهمس بانه سوف يأذن باقتراض ثلاثية نجيب محفوظ التي وصلت الي المكتبة قبل ان تصل الي الباعة في المكتبات الخارجية. ولكن خطوات القدر رسمت لي الانتقال من الاسكندرية الي القاهرة لأمارس الحياة مع من احب, حيث دار روز اليوسف بنجومها الزاهرة في ذاك الزمان احسان عبد القدوس واحمد بهاء الدين. وفتحي غانم وكامل زهيري وصلاح عبد الصبور وجمال كامل وحسن فؤاد. كنت خائفا علي ما سافتقده بالرحيل من الاسكندرية الي القاهرة. خصوصا افتقاد حفلات الموسيقي بمسرح سيد درويش, ولم يحدث هذا الافتقاد, لان القاهرة قامت بتأسيس الاوركسترا السيمفوني والذي يقود أذني اليه استاذ علوم البحار الشهير الدكتور حسين فوزي. ولكن اين يمكنني العثور علي نافذتي الروح الهامتين؟ اين المكتبة الجامعة؟ واين متحف الفن الجميل؟.. وجاءتني الاجابة من كامل زهيري هذا العبقري الذي امتزجت فيه احياء القاهرة القديمة بثقافات الهند وفوق ذلك مكتبات باريس, فما ان سمع عما افتقده كان يجلس هو والشاعر صلاح عبدالصبور في غرفة واحدة, قال كامل زهيري شاعرك المفضل صلاح عبد الصبور من عشاق دار الكتب, ويمكن ان يقودك اليها؟.. وفي سيارة اوبل متهالكة يملكها الشاعر الكبير كانت اول زيارة لي الي دار الكتب, والذي كان يردد يومها علي مسامعي ان الشعراء لا ينكسرون بإرادة غيرهم, والدليل ان محمود سامي البارودي شاعر الثورة العرابية لم يسلم سيفه عندما انهزمت الثورة العرابية عكس الكثير من قادتها. واضاف صلاح عبد الصبور انه يجد في هذه الدراما ما يفتقده او لا يعثر عليه من كتب المتصوفة الكبار. وكان لكل من كامل الزهيري وصلاح عبد الصبور فضل هدايتي الي معارض الفن التشكيلي, لتنشأ في واحد منها صداقة لا تنتهي مع الراحل المبدع كمال خليفة, هذا الذي آمن بأن تحت جلد كل مصري حساسية فائقة للجمال, الذي هو الجوهر في حياة المصري العادي وعندما كنت الفت عيونه الي بعض مظاهر القبح في شوراعنا, كان يبتسم قائلا عندما يعلو صوت الضجيج السياسي علي صوت الاتقان, يمكنك ان تجد بعضا من بثور القبح, ولكن عندما تنبع السياسة من الاتقان المنتج فالامر يختلف, وقد تمر لحظات قد تقاس بالايام والسنين يعلو فيها صوت الضجيج علي الاتقان, ولكن سرعان ما تجرفها صحوة بذور الحضارة من جديد لتفرض شروطها علي الجميع. وتمر السنوات ليتم تجديد دار الكتب بباب الخلق ولتصبح متحفا وبيتا للموسوعات, وعندما ازورها اجد التجلي الظاهر لعناق الحداثة مع الاصالة, حيث ابدع المعماري احمد ميتو في مزج الاثنين معا, وهو من فاز في مسابقة عالمية بان يكون هو المطور لدار الكتب وتراجعت بقية المشاريع التي جاءت من مكاتب معمارية عالمية. واكاد اسمع همساته لينبئنا بأنه واحد من تلاميذ المبدع الراحل جمال بكري عاشق الحضارة المصرية, واتأمل كيف مزج المعماري ميتو تلك الحداثة الشديدة بعمارة عربية قديمة, وكيف استطاع العثور علي الحلول الجمالية التي تربط القديم بالجديد دون اخلال, بل بإضافة زهوة الحديث علي اصالة القديم. وهكذا جاء عيد ميلاد دار الكتب المائة والاربعين ليفجر في التذكار لمحات من تاريخ قديم, حيث تبدو الاوراق والموسوعات فيها كأرض شديدة الخصب قادرة علي ان تنبت عقولا ومشاعر راقية تعرف كيف تستوعب القديم وتملك جدارة الاخلاص للحاضر وترنو الي المستقبل لتمحو منه اي جهامة او قبح. نعم تمثل دار الكتب بالنسبة لي قصة حب بدأت منذ قرابة الخمسين عاما, ومازالت تملك الوهج كأنها مولودة منذ لحظات. أليس هذا ما يفعله العشق في البشر؟