من شعر الفيلسوف الشاعر الأمريكي جورج سانتايانا, ما أتعس الفانين الذين يستغرقون في همهم.. الذين كتب عليهم أن يروا داخلهم, وأن يروه وحدهم بلا أنيس. فالأنس أو المؤنس ضرورة لأداء ملكات واستعدادات الآدمي لوظائفها وأغراضها, وغياب الأنس أو المؤنس فيه نوع من القتل أو الإفناء.. لأنه افعام لداخل الآدمي بالشقاء والمرارة والنقمة.. يجعل منه شبحا لحي, وليس بحي! ومخلوقا باهتا مؤديا لنفسه وغيره, مكذبا لجنسه ولمعني ايجاده وما استلزمه ايجاده من أطوار مليئة بالحكمة والإتقان.. وهو عكس ونكس وإلغاء وإبطال لحقيقة الحياة المزودة في كل مخلوق بزادها من العناية والتيسير والتمكين, المشاهد غالبا وفي أي وقت في مجاميعها وأفرادها ومحيطها. وعدم الإحساس بأنس الحياة والأحياء, ليس مجرد نقص قابل للتقويم والعلاج, بل هو عيب أصيل في الصنع إن جاز التعبير, يجعل صاحبه مرفوضا غير لائق للوجود, ووعيه لهذا الرفض, وبال عليه يضاف إلي عيبه ويفاقمه. وإلحاحه في تذكير نفسه ومن حوله بحمق الحياة وانعدام جدواها ومعناها, عبارة عن خطوات يريد أن يخطوها كل حي, للتخلص والفرار من الشقوة التي يعانيها والتي لا يكف عن معاناته لها.. وهو حيث يوجد, يشيع ما يستطيع, استطاعته من التشاؤم التي يعانيها والتي لا يكف عن معاناته لها.. وهو حيث يوجد, يشيع ما يستطيع استطاعته من التشاؤم في الآخرين. إشاعة تودي إلي تجنبهم إياه والابتعاد عنه.. ليس فقط لسوء رأيه فيهم,, وإنما أيضا لأنهم يحملون بقايا من تشاؤمه تعكر أوقاتهم, وتصد قليلا أو كثيرا من تفاؤلهم وآمالهم! والإنسان يحتاج إلي أنيس في الهم احتياجه بل وأكثر من احتياجه إليه في السرور.. لأن وجود الأنيس في السرور مشاركة خارجية قد لا تنطوي علي أكثر من ذلك, والأمر يختلف بشأن المشاركة في الهم إذ قلما يستطيع أحد أن يمحو هموم غيره, وإنما بوسعه المعاونة علي حملها بوجوده وتعاطفه وتسانده معه.. فهذا الوجود, ليس كالوجود الخارجي في المسرات, وإنما هو الوجود الحي النابض الذي ينقل إلي المهموم أن دنياه لم تخل من أصدقاء يقفون إلي جواره ويساندونه ولا يتركونه وحيدا في الشدة! هذا إلي أن همومنا أغلبها خوف أو سخط علي نتائج وآثار توقعاتنا.. نخاف أن تخيب النتائج أو تخفق وتفشل هذه الآثار, ويتحول الخوف إلي سخط إذا ما وقع الإخفاق والفشل فعلا. وليس لنا عذر معقول في حمل معظم هذه الهموم عن غيرنا, فقد يكون انشغالنا بها تدخلا أو تطفلا أو تجاوزا غير مقبول في التدخل في أمور خاصة تهم صاحبها في أوضاعه وعلاقاته هو مع آخرين.. ولو راجعنا وضع اهتماماتنا في مواضعها المناسبة الحقة, وألا تتجاوز حدود ما يخصنا أو يتوقع أو ينتظر منا عادة, وكففناها عما لا يعنينا, أو التزمنا فيها بحدود ما يعنينا طبقا للعرف.. لو راعينا ذلك, وأقلعنا عن ربط وتوزيع رضانا أو سخطنا علي نتائج وآثار لا تخصنا, لكفينا أنفسنا الكثير من القلق والانشغال والسخط والنكد والهم. ليس في مقصودي بهذا عدم المبالاة بالشئون العامة, أو عدم المبالاة بشئون من تربطنا بهم قرابة أو صداقة أو مودة أو زمالة عمل.. وإنما مقصودي عدم المغالاة والمبالغة التي قد تخرج عن حيز الاهتمام الإنساني الواجب, لتدخل في باب التطفل أو الفضول غير المقبول. سيما أن تقديراتنا بشأن الآخرين قد يكون مبناها الظن, وقد لا نعرف من الأسباب التي دفعتنا للتدخل إلا بعض ظواهر أو قشور وامارات خارجية, شاهدناها أو رويت لنا أو نقلت إلينا, وقد نخطيء من ثم وزنها وتقديرها لأن فرصتنا في التحقق منها محدودة. فإذا استبعدت التطفلات, أو التزمت الاهتمامات حدودها المعقولة, لم يعد للآدمي هم حقيقي إلا الهم الذي يراه داخله وفي أعماقه.. ويحس إحساسا حادا بتبعيته ومسئوليته الشخصية عنه.. هذا الإحساس الحقيقي الذي يدفع ضميره إلي الصياح الداخلي بعبئه كلما حف به السكون وكف حوله اللغط. يتتبعه ويناديه ويلح عليه في الليل أو النهار, فيلتمس جود أنيس يخفف شعوره بوحدته المرهقة, أو يولي وجهه وقلبه شطر الخالق عز وجل.. فإن لم يفعل هذا ولا ذاك, ضاقت عليه الأرض بما رحبت, وانجرف إلي افراغ همه بالقسوة والظلم والانتقام والتدمير, وقد يهرب بالغرق في الملاذات الجسدية طبيعية وغير طبيعية, أو في الخمور والمخدرات, وقد يفرغ همه كله مرة واحدة بالتخلص نهائيا من حياته!! والذي يحاول فراغ همه علي هذا النحو, أفراد منتشرون مبعثرون في الجماعات البشرية في كل بيئة وكل عصر.. لم ينجحوا قط في تكوين جماعة تجمعهم, لأن الجماعة قوامها اطراد الزمن والعدد, وهو محال علي الحاقد الذي لا يجد له أنيسا في وحدته مع همومه المستعرة داخله.. وهو كما قلنا يشع ما يستطيع اشعاعه من نكده وظلمه وتشاؤمه علي من في دائرته.. وهؤلاء منهم من ينتهز سنوح الفرصة للابتعاد عنه وتفادي صحبته أو تبعيته, ومنهم من لا يستطيع لسبب أو لآخر, فيتحمل نكده وقسوته ونظرته السوداء إلي الحياة والأحياء! وحين يكون هذا ملكا أو سلطانا أو حاكما أو أميرا, تحس الجماعة المتسلط عليها وطأة سلطته وتعاني الضيق والانكسار اللذين يلزمان أفراد رعيته حتي في حياتهم الخاصة, وقد يمتد هذا الإحساس بالضيق بعد رحيله أو زوال سلطته, وذلك بحكم الأثر ونتيجة طول الاعتياد وصعوبة إبداله باعتياد مضاد.. وأمثلة ذلك ليست قليلة في تاريخ البشر قديمه وحديثه. وقد يجد الحاكم الجديد مع سواء واستواء طبعه, قد يجد ميزة في اعتياد المحكومين علي الطاعة والرضوخ والانكسار, فيحافظ علي استبقاء ما اعتاد عليه الناس من سياسة سلفه, لا ميلا ولا انحرافا ولا شططا, وإنما لأحكام السياسة وأغراضها التي قد لا تطابق دائما قواعد ومباديء الأخلاق وأحكام وجدان الآدمي المستقيم المخلص الخير. وما يسنه المشوه داخله من قواعد وأنظمة, يحمل بالضرورة شيئا من نظرته الشخصية وسوء ظنه بالأحياء وحياتهم, يستوي في ذلك كل من يملك فرض ما يريد.. الزمني والديني.. ذلك أن داخل الآدمي لا يأبه بأنواع الرياسات وتقسيمات الناس لها, ويفرض كلمته ونفوذه علي قرارات وتصرفات الآدمي الواعية وغير الواعية وبالطريقة التي يرتضيها هو. والأنظمة المبالغة في الشدة والقسوة, مدنية أو دينية, قصر عهدها أو طال, تعكس ما في داخل من سنها من هم مستعر تحته مقت وحقد علي ضعف البشر وخورهم. ولولا أن الرب تبارك وتعالي طرف حاضر في الأنظمة الدينية, منه تستمد هذه الأنظمة قداستها ولزومها وقبول أتباعها لها مهما كان فيها من شدة غير معقولة أحيانا, لكان للعقل فيها طريقة دائما, ولما بالغت بالتحجب عبر القرون بستار التقديس للمصادرة علي ما يجب فهمه أو بحثه أو النظر فيه. وأنس الآدمي بالآدميين وائتناسهم به طبيعة وسليقة, والنفور منهم يحسب عاهة تحبس المصاب بها عن الامتزاج بهم وتمنعهم من الالتفاف حوله كفيل بإيجاد وإحياء المودات التي منها تولد وتنمو الجماعات.. وهذا الجذب والاجتذاب لا يضره ولا يعقبه ما قد يتردد أحيانا من عبارات الاختلاف والجدال والمراء وما قد تحتويه من مبالغات واطلاقات.. فمقاومة المعارضة أو تخفيف حدتها أو مقاومتها, لايعني الاستغناء عن الأنس والإئتناس والجذب والاحتذاب والمودات والائتلاف. الخطر أن يتحول الهم إلي عاهة داخلية في أعماق الآدمي تفرز القسوة والشدة, وتعكس جفاف وتجمد وتصلب المصاب بها وقلة زاده من الفهم والرحمة! والفهم والرحمة يصحبهما في الغالب قدر من الاتزان والتحمل والصبر.. يشاهد في سلوك الشخص وأفعاله وردود أفعاله ويعرف بين الناس به. وخصال الاتزان والتحمل والصبر, يفطن إليها صاحبها مبكرا, ويحرص علي المحافظة عليها وتنميتها, لأنها مزية يكسب ويرجح بها غيره من العاديين. وغالبا في تصرفات البشر, ما يمتزج صبرهم بتخوفهم, وأمانيهم بسوء ظنونهم.. ويخالط ذلك كله تكلف الإغضاء والستر بالولع بالقالات والشائعات, واختلاط الحرص علي الابتعاد ابتغاء السلامة بالأشواق التي لا تهدأ الوقوف علي مطويات الأحداث والأخبار ونقلها وإذاعتها.. ربما لأن الناس فيما بينهم أو بينهم وبين حكامهم, يعانون من شعور قديم بالغربة العميقة الجذور, تأكل أحيانا الأخضر واليابس, وتزيد شعورهم باليأس والشقوة, وتغري أصحاب الصولة بالعنف والسطوة والغطرسة.. ويبدو أن ما أصاب ويصيب الحاليين هو هو ذات ما أصاب السابقين.. لا فرق في ذلك بين الأقدمين والمحدثين إلا في الأسلوب!!