ثمة ما يسترعي الانتباه بشأن مسار الجولة الجديدة من الحوار بين حركتي فتح وحماس, والذي لعب لقاء مكة بين مدير المخابرات المصرية الوزير عمر سليمان ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل في رمضان الماضي دورا رئيسيا في انطلاقها بعد توقف استمر لأكثر من عام. فاللقاء الأول من هذه الجولة الذي ضم وفدي الحركتين في الرابع والعشرين من سبتمبر الماضي في دمشق انتهت المحادثات فيه عند الملف الأمني بعد أن أعلن الطرفان عن التوافق علي ثلاثة أرباع المشكلات العالقة بينهما, وتأجيل الملف الأمني إلي اللقاء الثاني. وكان هذا بمثابة اعتراف ضمني من قبل قطبي الساحة الفلسطينية بأن الإشكاليات المتعلقة بهذا الملف أكثر تعقيدا من أن تحسم في لقاء واحد, وأن الأهمية التي يحظي بها تقتضي أن يفرد له لقاء خاص يشارك فيه الخبراء من الجانبين إلي جوار القيادات السياسية. أما اللقاء الثاني الذي عقد في التاسع من نوفمبر الحالي, فتم فيه اختزال الملف الأمني في مسألة واحدة فقط وضعت علي جدول أعمال اللقاء وهي تشكيل اللجنة الأمنية المشتركة, دون التطرق لمسألة أكثر أهمية وهي تلك المتعلقة ب السياسة الأمنية التي ستتولي تلك اللجنة الأمنية المشتركة مراقبة تطبيقها علي الأرض. ما بين عدم حسم الملف الأمني في اللقاء الأول واختزاله في اللقاء الثاني, أثيرت العديد من التساؤلات والتكهنات التي تعكس كلها حقيقة ما لملف الأمن في السياق الفلسطيني من أهمية وخصوصية مستمدة من سوابق تاريخية عديدة ومعطيات آنية ذات أبعاد محلية وعربية وإقليمية ودولية متشابكة ومعقدة, لعل أهمها أن استعصاء مد الشراكة بين الطرفين إلي الملف الأمني سيؤدي عمليا إلي نتيجتين: إحداهما متحققة بالفعل, والأخري قد تتحقق في المستقبل: أما الأولي فهي تقزم الأهداف المرجوة من حراك المصالحة وتمحوره حول أي صيغة من صيغ التوافق علي إدارة الانقسام فقط وليس إنهائه. وأما الثانية التي قد تتحقق في المستقبل, فهي إعفاء إسرائيل من الاستحقاق الأمني الأهم المتمثل في الممر الآمن بين الضفة وغزة. لأن دولة الضفة و دولة غزة لا تتفقان علي مبدأ الحل, ناهيك عن تفاصيله, فلماذا إذن تتكبد إسرائيل عناء البحث في فكرة الممر الآمن؟! تدويل الملف الأمن الفلسطيني إن إحكام سيطرة حماس علي غزة بعد أحداث يونيو2007 أسهم بشكل رئيسي في زيادة درجة تدويل الملف الأمني الفلسطيني عربيا وإقليميا ودوليا وذلك للأسباب التالية: 1- أن تلك السيطرة من قبل حماس رفعت من درجة التوتر مع إسرائيل, وقد وصلت درجة سخونة الأحداث في المنطقة إلي ذروتها أثناء عملية الرصاص المصبوب في ديسمبر2008 يناير9002 وهي العملية التي كادت أن تتسبب في إدخال المنطقة بأسرها قسرا تحت وطأة منظومة أمنية جديدة, وذلك عقب الاتفاق الأمني الذي وقعته إسرائيل والولايات المتحدة في يناير2009. وكان من أبرز تجليات تلك المرحلة: تموضع قطع البحرية لدول حلف الناتو قبالة ساحل غزة وكذلك مؤتمري كوبنهاجن ولندن في فبراير ومارس2009 والذي شاركت فيه قوي دولية فاعلة علي مستوي الخبراء, للتعاون في منع إمداد الأسلحة والمواد المتعلقة بها للمنظمات الإرهابية, ومراقبة تهريب الأسلحة إلي غزة من خلال معابر الخليج العربي, وخليج عدن, والساحل الشرقي من البحر الأحمر, والبحر المتوسط. ناهيك عن ضرب ما عرف ب قافة السلاح في شرق السودان في يناير.2009 2- ارتباط حماس بما يعرف بالمحور الإيراني وزيادة التعاون بين أجهزتها الأمنية والعسكرية وبين كل من الحرس الثوري الإيراني والجناح العسكري لحزب الله فاقم من أزمات الحركة مع بعض الأنظمة العربية, لا سيما بعدما بدا أن حماس ليست لديها المناعة الكافية ضد التوظيف والاستخدام في الصراع الإقليمي الدائر ذي العنوان المعلن بين محوري الممانعة والاعتدال, وأن الحركة( حماس) تتماهي سواء بوعي أو بغير وعي مع تصورات ترغب في أن تدفع الأمور في إتجاه تبدو فيه شبه جزيرة سيناء خاصرة دول الإعتدال الضعيفة التي يمكن المرور منها لتحقيق عدة أهداف, المباشر منها هو دعم غزة وتثبيت أركان نظامها الممانع الذي يعتبر جزءا من المحور الإيراني. أما الاستراتيجي فهو تحقيق أقصي درجات الاختراق الأمني لسيناء بشكل يسمح بدق الإسفين الأمني والعسكري بين دول الاعتدال مصر والسعودية والاردن( لاحظ عمليات إطلاق الصواريخ من سيناء علي العقبة و إيلات في شهر أغسطس0102). مرتكزات وصيغة الحل المرحلي علي خلفية تلك السوابق والمعطيات يدور الحوار الآن حول الملف الأمني الفلسطيني بين الفرقاء الفلسطينيين بشكل مباشر, وبين الأطراف العربية والإقليمية والدولية المعنية بشكل غير مباشر. وهنا لا تكمن صعوبات هذا الحوار فقط في تعدد الأطراف المنغمسة فيه علي اختلاف المواقع والأجندات والمصالح, وإنما إلي جانب ذلك واقع وطبيعة الأجهزة الأمنية ذاتها التي يجري الحوار بشأنها. حيث يدور الحوار حول أجهزة أمنية للطرفين أي فتح وحماس هما علي النقيض تقريبا, ولا يربطها أي رابط, ليس بالمعني العضوي أو المؤسسي وفقط, وإنما بالإضافة إلي ذلك بكل الجوانب التي تتعلق بالعقيدة الأمنية والقتالية, وبشبكة العلاقات الخارجية لكل طرف منها, سواء علي صعيد التدريب والدعم الفني واللوجستي, أو علي صعيد الإمداد بالعتاد. وكذلك تلك المتعلقة بخريطة الحلفاء والأعداء.. وهذه كلها مؤشرات دالة علي صعوبة حوار كهذا. وإذا كان الطرفان المباشران في هذا الحوار قد عمدا إلي تكتيك عدم التوافق الكلي لا يحول دون التوافق الجزئي من خلال الحديث فقط عن تشكيل اللجنة الأمنية المشتركة, فهذا يعني التسليم ابتداء بعدم إمكانية الحسم في ملف شائك كهذا من خلال معالجة جذرية يتم فيها بسط حلول كاملة له. وهذا بحد ذاته قد يعطي الانطباع بأن الجهد الأساسي للطرفين سوف يتركز في البحث عن صيغة وسط تمثل في تلك المرحلة الحل الواقعي والمتاح حاليا حتي ولو لم يكن المثالي. وتقديري أن الصيغة الوسط في هذه المرحلة هي تلك الصيغة التي تتأسس علي مرتكزات ثلاثة هي: 1- ضمان ألا تتحول حالة الاستعصاء الأمني بين قطبي الساحة الفلسطينية إلي عامل سلبي يؤدي إلي انتكاسة جديدة في العلاقات الفلسطينية الفلسطينية. 2- ضمان ألا تتحول تلك الحالة كذلك إلي عامل سلبي يضعف المفاوض الفلسطيني في مواجهة الطرف الإسرائيلي. 3- الحد من قابلية هذا الملف للتوظيف الخارجي من قبل قوي إقليمية, والحرص علي عدم الزج به في صراع المحاور في المنطقة. هذه المرتكزات الثلاثة يمكن ترجمتها عمليا بالاتفاق علي ما يلي: - تخفيف المضايقات التي يتعرض لها أنصار الطرفين في مملكة الطرف الآخر, مع وقف الحملات الإعلامية. - انتشار الحرس الرئاسي علي معبر كرم أبوسالم بالتنسيق مع شرطة حماس في غزة. - وجود محسوس لحرس الرئاسة علي معبر رفح ضمن ترتيبات وتقاسم واضح مع شرطة حماس, بشكل يسمح بعودة المراقبين الاوربيين من جديد. - الاتفاق عبر مظلة الجامعة العربية علي تشكيل لجنة برئاسة مصر, ذات صلاحيات واضحة تضمن لها متابعة تطورات هذا الملف, ومراقبة تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه بين الطرفين. هذه الصيغة من التوافق المرحلي ربما تسمح بشكل فاعل في تهيئة الأجواء لتخطي عقبة الملف الأمني, أو للبحث عن نبضة جديدة يمكن لها أن تدفع الواقع إلي مرحلة أفضل.