ربطنا في مقال سابق مفهوم الجيل بمفهوم زماني علمي, له مقدار واتجاه بالمعني الرياضي, وأوضحنا أن العمر ليس وحده عاملا حاسما في تحديد الانتماء إلي جيل ما, وأن الجيل يسمي من خلال إنجازه الذي يأتي مبشرا بممكن جديد وآخر, وهذا مايربطه بمفهومات لها علاقة بالحركة, كالطليعة, والتقدم.. إلخ. من أجل هذا تبدأ النظرة إلي الجيل دائما من المستوي الكيفي لا الكمي. ولايمكننا في هذا السياق أن نغض الطرف عن أن هناك اتجاها شديد الوضوح, ويفكر في مجمل النظام الاجتماعي من خلال مخطط التقسيم إلي أجيال, وذلك وفق المنطق الذي يذهب إلي أن المثقفين يبسطون فوق العالم الاجتماعي سمات تتعلق بعالمهم بالغ الصغر, علي رأي المفكر الفرنسي بيير بورديو(1930 2002) ونذهب في هذا إلي أن الجيل الفني أو الادبي يرتبط غالبا بشكل من أشكال وعي جمعي متقدم, من جماعة أو صنف من الناس, أما إذا كان هذا الوعي فرديا, ويخلو من التفاف جمعي من حوله, فإنه لايشكل جيلا له رؤية, ونتبني هنا تعريف المفكر والناقد الفرنسي, روماني الأصل, لوسيان جولدمان(1913 1970) للوعي بصفته مظهرا معينا لكل سلوك بشري, يستتبع سلوك العمل تأسيسا علي هذا, يمكننا أن نربط مفهوم الجيل الأدبي علي مستوي الإنتاج برؤية ما إلي العالم تشكلت بين عدد مؤثر من أفراد هذا الجيل, وممارساتهم, وذلك علي نحو له تأثيره الملحوظ علي جماع جماعاته وأفراده, وهذا مايربط هذه الرؤية بطبقة أو بفئة, وربما بطليعة جيل ناهض أيضا, وهذا ما أحاول أن أقترحه في هذا المقال. يمكننا أن نربط الجيل الاجتماعي بالجيل الأدبي من خلال المفهوم المتداول عن رؤية العالم لدي جولدمان, ولا أقصد برؤية العالم هنا معناها التقليدي الذي يربطها بتصور ابداعي إرادي ومقصود, بل أقصد معناها الجدلي بصفتها الطريقة التي يحس بها المبدع, وينظر من خلالها إلي واقع معين ذلك لأن المهم في رؤية العالم ليست نيات المؤلف, ولكن المهم هو الدلالات الموضوعية الي يكتسبها نتاجه بعيدا عن رغبة مبدعة, وضد رغبته أحيانا. هكذا تبدو رؤية العالم حلقة وسيطة بين الطبقة الاجتماعية والأعمال الأدبية. فالطبقة تعبر من خلال رؤيتها للعالم, وهذه الرؤية تعبر عن نفسها عبر العمل الأدبي, وهذا ما قد يجعل الناتج علي علاقة وثيقة بالأيديولوجيا, وفي هذا تفصيل لن نخوض فيه. لايفهم من هذا الطرح أن الجماعات الصغيرة, والأفراد باختلاف مشاربهم وتياراتهم الذين يوصفون بانتمائهم الي جيل واحد سيكون لهم سمات جمالية واحدة, أو سيتصفون بدرجات وعي ثقافي أو جمالي متطابقة, فهذا زيغ, ذلك لأن الاختلافات الفردية بين مبدع وآخر, أو بين اتجاه جمالي في جيل أدبي واتجاه آخر في الجيل نفسه, ستظل قائمة دائما, هذا إذا اقتنعنا بالمبدأ الذي يذهب إلي أن العمل الإبداعي تشكيل لغوي خاص, له آلياته التعبيرية, وطرائفه الإشارية وأساليبه المائزة والمتفردة. لكل مجال صناعة ثقيلة من القوالب, والمجال الأدبي ليس استثناء هنا. شاع في بيئتنا الثقافية توظيف تعبير الجيل علي نحو خاطئ, بل إنه استخدم أحيانا ليربط الانتماء بالقيمة, وكان الانتماء إلي جيل ما هو قيمة في حد ذاته, علي مايحمله هذا الحكم من زيغ علي المستويين النظري, والتطبيقي, علي هذا النحو, اتخذ تعبير الجيل في مندياتنا الثقافية, علي المستوي الشفهي بخاصة, صفة القالب الكليشيه, وهذا ما أثر علي المستوي النقدي بعمليتي التحليل والتقويم, ووسمهما بشكل من شكول النمطية, والاستجابة الآلية دون دقة وتمحيص, فشهدنا أحكاما اختزلت الواقع الأدبي, وسجنته في منطوقات مغلوطة, ومشتركات خاطئة, سريعة التداول والشيوع. لكل جيل غروره الذي يجعله يظن أنه علي أعتاب عصر جديد, معتقدا أن يسلك سلوكا خاتما لما قبله, أوقاهرا لكل ماسبقه علي حد تعبير وليم راي. ويؤكد تحليلنا السابق ماتحمله تعبيرات, مثل جيل الخمسينيات, أو الستينيات, أو السبعينيات, من قولبة ونمطية, وهي تعبيرات كان لها سطوتها علي النقاد والمبدعين في محيطنا الثقافي المعيش, بحيث يمكننا القول إن هذه النمطية قد حولت تعبير الجيل الي ميثولوجيا أدبية, بما فيها من دعاية, وإعلان تضليلي, وصيغ جاهزة, سابقة الصنع علي رأي الناقد نورثروب فراي, فأصبحت فلكلورا نقديا, لو صحت التسمية, وأضحي لها تأثير سلبي ساعد علي إنتاج معارك أدبية ساذجة, قامت علي سطحية الفهم, وعلي النفي المزدوج بين المتخاصمين, سواء من المنتمين الي الجيل الواحد, أو إلي الأجيال المختلفة. وأذهب في هذا السياق الي أن دراسات الجيل يمكن أن يكون لها نتائج عامة فحسب إذا عولجت علي نحو ضيق, ارتباطا بتخصص حقلها الإنتاجي, أو بدراسة الممارسة العملية لأفراده, ذلك لأن مفهوم الجيل الاجتماعي الواسع يختلف كثيرا عن مفهومه الأدبي أو الفني الضيق, فالأول يضم الثاني, والثاني أخص.. في ضوء هذا يمكنني القول إن الجيل يتصف بصفتين الأولي صفة عامة وكلية, ترتبط بالمجموع كله, بحركته وبسكونه, وبكل من ولدوا في حقبة معينة, وعاشوا في محيط ثقافي متشابه, وشهدوا أنماط إنتاج قريبة, جمعتهم علي خبرة تاريخية بعينها, وفي هذا مايشد مصطلح الجيل الي معناه الاجتماعي الرحب بتنوعاته كافة, والثانية صفة نسبية وجزئية, لكنها حاسمة في تعيين الجيل, علي الرغم من أنها لا تنطبق إلا علي منجز طليعة أدبية أو فنية محدودة, قادرة علي أن تنشيء انقطاعا في سيرورات راسخة, وأن تمثل تحديا لها, أو كسرا لتقاليدها, أو هدما لمنطق خطابيها المعرفي والجمالي, ذلك دون غض الطرف عن تأثر هذه الطليعة بمحيط اجتماعي اقتصادي كان سببا في تشكيل رؤيتها الي العالم, وهي طليعة رغم كونها أدبية, أو فنية, أو سياسية, فإن الجيل الاجتماعي بمعناه الواسع لايتحدد في رؤيتنا النظرية إلا بها. علي مستوي آخر, تؤثر الرؤية الاجتماعية بالكاتب أو بالمبدع, فيأخذها, ثم يعيدها ملونة بإبداعه الي المجموع, من أجل هذا يظل لمفهوم الجيل الاجتماعي تأثيره المقابل علي مفهوم الجيل الأدبي, علي الرغم من أن رؤية العالم لاتظهر جلية إلا في تجليات الجيل الأدبي أو الفني الإبداعية المباشرة, وذلك علي خلاف مايظهر في نتاج أجيال علمية أخري قد تنتمي الي الجيل الاجتماعي ذاته كالفيزيائيين, أو الكيميائيين علي سبيل المثال. إن أنماط الإنتاج القائمة, وما خلقته من أثر اجتماعي وثقافي لايمكنها أن تسهم في تشكيل رؤية العالم لدي جيل اجتماعي كامل, سواء علي مستوي ممارسته العملية, أو علي مستوي تشكل وعي أفراده. ذلك لأن تحليل النص الأدبي الدال علي رؤية العالم لطبقة, وأضيف هنا أو لجيل ما هو إجراء كاشف, وغير منشيء, وفي هذا مايربط مفهوم الجيل الاجتماعي برؤية جيله الأدبي أو الفني علي سبيل المثال, من خلال وعي المبدع الفعلي الذي ينم عن الوعي الناجم عن الماضي ومختلف حيثياته وظروفه, فضلا عن وعي المبدع, الذي يدل علي مايمكن أن تفعله طبقة اجتماعية, بعد تعرضها لمتغيرات مختلفة, دون أن تفقد طابعها الطبقي. هكذا يتضمن الوعي الممكن والوعي الفعلي ويضيف إليه. وفي النهاية لا دليل علي رؤية العالم هذه إلا من خلال ظهورها في أعمال أفراد جيل إبداعي ما, علي مستوي الشكل والمضمون, فعلي الرغم من أن الثقافة والعمل الفني والفلسفة تشكل جزءا لا يتجزأ من العلاقات الاجتماعية, وأن هذا التفاعل بينها وبين المجتمع لانستطيع إدراكه إلا من خلال رؤية العالمالخاصة بالمبدع, فإن تأثير هذه العوامل يظل فرضية تكتسب صلاحيتها فحسب, بقدر ماتؤيدها الوقائع, وللكتابة بقية.. المزيد من مقالات د. علاء عبدالهادى