رغم أنني غير متخصص في الآثار الإسلامية, هناك الكثيرون الذين يوجهون لي النقد بأنني اهتم بالآثار الفرعونية أكثر من الإسلامية.. وأقول لهم إن أعمال الترميم التي تمت بالآثار الإسلامية والقبطية تفوق الكثير. مما تم في الآثار الفرعونية, ولكن سبب هذا الاتهام ينحصر في أنني أتحدث دائما عن الآثار الفرعونية لأنها معشوقتي, حيث درست فنونها وأسرارها.. ولأن تاريخ مصر والحضارة المصرية يبدأ منها وينتهي إليها. وعندما قررنا تطوير المتحف الإسلامي وتجولت بين كنوزه الأثرية الرائعة, استطيع أن أؤكد أنني وجدت أن هذه كنوز وآثار فريدة ورائعة تمس القلب والعقل معا.. وأدعو كل مصري أن يزور المتحف الإسلامي ليشعر بفخر شديد وهو يشاهد أعظم وأهم متحف في العالم عن الفن الإسلامي. والحديث عن كنوز المتحف الإسلامي ليس بالأمر السهل, فهو يحتاج إلي كتب ومؤلفات لإحصائها, والحديث عنها وعن أهميتها ومكانتها بين الفنون الأخري.. ولكي نبسط الأمر علي القارئ ونحثه علي زيارة المتحف, فالمهم أولا أن يعرف أن سيناريو العرض الحديث لآثار المتحف قد قسمه إلي قاعات.. القاعة الأموية, والعباسية, والفاطمية, والأيوبية, والمملوكية والعثمانية, إضافة إلي قاعات أخري متخصصة لعلوم الطب والفلك والهندسة وكل ما يتعلق بالعلوم التي أسهمت فيها الحضارة الإسلامية وعلماؤها بسهم وافر بل بنيت عليها علوم الغرب الحديثة كلها! ولنبدأ بالقاعة الأولي, والتي تحتوي علي واحد من أقدم الآثار والأعمال الفنية بمتحف الفن الإسلامي.. وهو إبريق مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين, الذي فر من الشام إلي مصر وقتله العباسيون في قرية أبي صير الملق, والتي تقع بين الفيوم وبني سويف, وقد عثر علي الإبريق بجوار مقبرته, وهذا هو السبب الرئيسي في نسب الإبريق إليه.. والإبريق من البرونز وله رقبة طويلة وصنبور علي شكل ديك يصيح, والبدن مزخرف بعقود متصلة تحتوي علي زخارف نباتية وحيوانية وهندسية, وعلي الرغم من أن الشكل العام لهذا الإبريق يشبه الفن الساساني في بلاد الفرس القديمة خاصة في استخدام أشكال الديوك, إلا أن الطراز لهذا الإبريق هو من صنع الفنان المصري القبطي الذي يظهر في التعبيرات القوية سواء صياح الديك أو الزخارف النباتية علي بدن الإبريق. وإلي جوار هذا الإبريق الفريد والرائع يتم عرض أقدم عملة ضربت في العام77 هجرية, أي قبل نحو أربعة عشر قرنا من الزمان.. وهو دينار من الذهب وحول إطاره كتب بالخط الكوفي بسم الله ضرب هذا الدينار في سنة سبع وسبعين: وفي المركز كتب الله أحد, الله الصمد, لم يلد ولم يولد. ومن روائع متحف الفن الإسلامي بالقاهرة أيضا إناء أو كأس من الزجاج, وعليه كتابة كوفية تقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم عبدالصمد بن علي أصلحه الله, ويرجع تاريخه إلي عام155 هجرية, وأهميته ترجع إلي أن زخارفه وكتاباته نفذت بأسلوب البريق المعدني. تعالوا ننتقل إلي القاعة الفاطمية لنري إبداع الفنان المسلم ومظهرا آخر من الفنون الإسلامية غير التقليدية, ومنها علي سبيل المثال اللوحات الجدارية من حمام أبوالسعود, وتفضح نقوشها ورسوماتها مدي تحرر الفنان من قيود الدين ومهارته في رسم أشكال آدمية وحيوانية, إضافة إلي الزخارف النباتية والهندسية والتي تفصح عن مدي الترف الذي أستبغ به العصر الفاطمي, إضافة إلي وجود أجمل مجموعة من أدوات المائدة المنفذة بطريقة البريق المعدني, وعليها رسومات آدمية وحيوانية أشهرها مناظر الظباء والأرانب, وهي تتنط وتتقافز, وقد برع الفنان في استغلال أشكال هذه الحيوانات في ملء الفراغ حول إطار الطبق أو الإناء, وهي من خواص الفن الإسلامي الذي لا يحب ترك الفراغ.. إضافة إلي الأطر الكتابية التي تشتمل علي أدعية وأشعار تعكس صورة الحياة في العصر الفاطمي. وأنا شخصيا تعجبني المناظر الفاطمية المصورة علي الدعامات الخشبية علي هيئة دوائر متكررة من مناظر صيد وموسيقي تعكس ترف العصر الفاطمي, بالإضافة إلي الأبواب الخشبية وزخارفها المتأثرة بالفن الساساني, ومن أجمل أعمال الخشب الفاطمية قبلة خشبية متنقلة عليها حفر وزخارف نباتية بديعة. أما العصر الأيوبي فيمتلك متحف الفن الإسلامي أجمل آثار من هذا العصر, ومنها نموذج رائع لشرفة فوق مدخل باب.. وقد نفذ الفنان المسلم عليها أروع أعمال الخرط الميموني المطعم بالعظم, واستخدام حنايات الشرفة بأسلوب السلويت علي الزخارف, أي استغلال الظل والنور لعمل تناغم رائع علي النقوش المحفورة. وهناك قطعتان من الخزف صنعت من طينة الChina من العصر الأيوبي ونفذت بأسلوبUnderglaze وتعكس التقليد والتواصل بين فنون الشرق البعيد والعالم الإسلامي. ونصل إلي العصر المملوكي.. وفيه ثورة فنية تتميز برقي الذوق واتساع دوائر المعرفة والاتصال بين العالم الإسلامي وغيره من الحضارات, وكذلك تعكس احترام المماليك وتقديرهم للفنون المختلفة, واهتمامهم بالعمارة بمختلف أدوارها سواء الدينية أو المدنية. والعمائر الدينية تعكس مدي ورع المماليك وصرفهم ببذخ علي المساجد والأسبلة والخنقاوات والتكايا وغيرها من العمائر المتصلة بالدين. أما الفنون الصغري والمقصود بها الآثار المنقولة, فالحديث عن أعمال الخزف والنحاس والذهب والخشب وغيره من الفنون يحتاج إلي أكثر من مقال, لكن يكفي زيارة الآثار المملوكية بمتحف الفن الإسلامي ومشاهدة أدوات الزينة الخاصة بالمرأة من ذلك العصر, ومنها مجموعات من الأمشاط والمرايا وأواني العطور المختلفة الأشكال والأحجام, والتي تفصح عن مدي الترف والبذخ في العصر المملوكي الذي جذب إلي مصر فنونا من مختلف أنحاء العالم الإسلامي, وكذلك من بلاد أخري لم يدخلها الإسلام. ولعل من أجمل أعمال الفن في العصر المملوكي المشكاوات التي كانت تنير قصور ومساجد وعمائر المماليك, ومشكاوات المساجد بصفة خاصة تميزت بطابع من الفخامة سواء في صناعة بدن المشكاة الزجاجي, أو تنفيذ الزخارف الكتابية أو النباتية أو الهندسية عليها, ونجد من أكثر الأدعية التي كتبت علي بدن المشكاوات الله نور السموات والأرض, وقد صنعت ووزعت المشكاوات في المسجد لكي تضارع النجوم في السماء.. فيظهر المسجد أو الجامع بالليل وكأنه يسبح في سماوات علا تضيئها نجوم تصبغ المكان بجو روحاني بديع. والمدهش أننا نمتلك في مصر في متحف الفن الاسلامي بباب الخلق مجموعات من الفن الإيراني من خزف وسجاد أكثر مما هو موجود في إيران نفسها, فلقد كان المماليك من محبي جمع الفنون المختلفة والاحتفاظ بالأعمال الفنية, بل والمباهاة والتفاخر بها فيما بينهم.. كان المتحف يضم قبل غلقة في2003 للتطوير والترميم عشرات الآلاف من القطع الفنية المعروضة بأسلوب وطريقة عرض لا تليق ومكانة هذه الأعمال الفنية الرائعة, لذلك كانت أولي أساسيات تطوير سيناريو العرض هي اختيار2500 قطعة أثرية تمثل رأس قائمة ممتلكات المتحف لعرضها علي الزائرين بأسلوب وطريق عرض تليق ومكانة هذه القطع. إننا نملك كنوزا لم نستغلها إلي الآن حق استغلاها, وتركناها سنوات طويلة فريسة الظلام والتراب.. والآن بدأنا نجني ثمار عمل وجهد سنوات من التطوير والتجديد, بل وإنشاء المتاحف الجديدة.. وهذه دعوتي إلي مدارسنا وجامعاتنا سواء في مصر أو في العالم كله أن تجعل من متاحفنا قاعات للدرس والمحاضرات عن التاريخ والحضارة بدلا من إعطاء هذه الدروس في فصول وقاعات خاوية من آثار وفنون الحضارة الإنسانية. www.zhaihawass.com المزيد من مقالات د. زاهي حواس