في بداية التسعينات أعاد المفكر إدوارد سعيد اكتشاف تحية كاريوكا, أضاء مناطق مظلمة بقيت علي حالها حتي بلغت الراقصة الأسطورة مشارف الخامسة والسبعين, قبيل إجراء دراسته الموجزة في حدود ثلاثة آلاف كلمة, تحمل مشقة السفر من أميركا والبحث في الوثائق وأجري عشرات اللقاءات مع كاريوكا وشهود عصرها, وفي النهاية خرج السحر. قدم سعيد رؤي بانورامية وصور قلمية تنوعت تفاصيلها, كراقصة نجحت كاريوكا في الانتقال بصورة الراقصات خانة العوالم الأقرب في الذهن الشعبي لبائعات الهوي إلي خانة الفن والتعبير الجسدي, لافتا إلي قدرتها علي الشدو الجسدي بأقل الحركات واستلابها نوعا بعينه من الإثارة بعيدا عن الابتذال, ترقص كقطع أرابيسك عبر موتيفات متكررة تتنوع تفصيلاتها, و في حالة ارتفاع درجات التعلق بالجسد كانت ابتسامتها الشهيرة كفيلة بخفض الحرارة مرة أخري فتصبح بعيدة المنال, وكأنثي رصد سعيد بزوغ نجمها كموديل تقدمي موازي لأم كلثوم, ارتبطت ثومة بإطار المرأة المحتشمة الصارمة الممثلة لنساء العالم الثالث, بينما مثلت كاريوكا تيمة التحرر والتمرد علي الطاعة, تمارس الوطنية وتنضم لحركات شيوعية, وتتحول لفنانة عضوية تتصدي لاعتداءات إسرائيل, ففي عام1988 ظهرت في أثينا كجزء من مجموعة مصرية وأخري عربية من الفنانين والمثقفين الذين وافقوا علي الانضمام إلي السفينة الفلسطينية العودة التي أريد لها أن تكون المثال المعكوس من رحلة الإكسودس إلي الأراضي المقدسة.وتحمل علي كاهلها تاريخ عائلي مشرف, دونت بعضه دماء عمها الشهيد في الإسماعيلية, وجهود أبيها محمد كريم(اسمها تحية محمد كريم) ونزوله المتكرر في ضيافة المعتقلات, بل حمل ثلاثة من عائلتها اسم نضال, وتتعرض للسجن لارتباطها رابطة السلام القريبة من موسكو. ميلاد أسطورة كاريوكا كان نتاجا لبذور كثيرة أثمرت في نهاية الفترة الليبرالية من تاريخ مصر, هي حصاد زرعة ثورة1919, مع انتعاش السينما والمسرح, وتبوأ الفن مكانة مغايرة لمكانة التشخيص, وعوالم كازينو بديعة. سحر كاريوكا نثره إدوارد سعيد علي رؤوسنا, بكثير من الجهد والعمق وقليل من الكلمات, أجبرنا علي إعادة النظر لها وهي في نهاية العمر بكثير من التقدير, هذا السحر يتبدد الآن تدريجيا, في خناقة نادية الجندي ووفاء عامر تحولت الأسطورة الموازية لأم كلثوم إلي نمرة أو قلم في خناقة حريمي, اعتبرت وفاء أن نادية خطفت دور الملكة نازلي منها, فأعلنت تمثيلها لدور كاريوكا لترد الصفعة, اتفقت مع المؤلف فتحي الجندي والمخرج عمر الشيخ, وبدأ التحضير مع كثير من العقبات المحتملة من الورثة. كان دور الملكة نازلي بداية لمرحلة جديدة في تاريخ وفاء عامر, بنت اسمها بالإغراء البلدي, ثم انتقلت فجأة لوقار الملوك في مسلسل الملك فاروق, بقي ماضيها حاجزا في طريقها الجديد, وعندما أجبرتها الخناقة علي الشروع في تمثيل قصة حياة كاريوكا, ستجبرها صورتها النمطية القديمة علي جر الراقصة الأسطورة إلي خانة العوالم مرة أخري, وهي التي قضت عمرها في طريق عكسي. في تجسيد أدوار السير الذاتية أو الشخصيات التاريخية, تراعي بعض الشروط, أهمها الملامح, فلم تكن مثلا نادية الجندي لها صلة بالملكة نازلي.. حياة القصور وتقاليدها تفرض علي صاحبها لغة معينة للجسد, تفتقدها بالطبع صاحبة تعبيرخالتي بتسلم عليك, الملامح الهادئة جزء من النجاح.. والدليل نجاح سمية الألفي مثلا في دور أشرقت في مسلسل بوابة الحلواني. في الغرب يفرضون شروطا قاسية لتمثيل الشخصيات المعروفة, يفضلون ممثلين مغمورين ليس لهم رصيد عن المشاهد, ليركز علي ملامح الشخصية الجديدة بلا تشويش, لم يكن بن كينسجلي معروفا مثلا عندما جسد دور غاندي, وفي التجارب العربية الناجحة لم يكن أيضا تيم حسن معروفا عند المصريين نجح في الملك فاروق, وبالمثل رصيد إياد نصار كان ضعيفا, فحقق نجاحا في حسن البنا, لكن نادية الجندي ووفاء عامر تحول معهما الأمر إلي حلية ملاكمة لا مجال فيها للفوز بالنقاط..بل بالضربة القاضية..لا مجال إذن لعمق تناول علي غرار إدوارد سعيد, ومنطق الانتقام لا يصنع فنا, بل ترتد في الأغلب الضربات في صدر صاحبها, فانبطحت نادية أرضا بعد مسلسل الملكة نازلي وتستعد وفاء لقاضية مع كاريوكا.