كتاب الدكتور محمد دويدار, أستاذ الاقتصاد بجامعة الإسكندرية, بين التبعية واقتصاد تجارة الشنطة, أعاد إلي ذهني مرة أخري نظرية التبعية عرف العالم نظرية التبعية في الاقتصاد. وذلك في بداية السبعينيات..انفجرت مع كتابات اقتصاديي أمريكا اللاتينية فإن جذورها تعود إلي أوراق بحثية كتبها هانز سينجر وراؤول بريبيش في عام1949 وتعرف باسم نظرية سينجر بريبيش, التي تقوم علي أن الدول النامية تشتري أقل قدر ممكن من السلع من الدول الصناعية المتقدمة في مقابل صادرات النامية من المواد الخام. وبريبيش هو اقتصادي أرجنتيني عمل في لجنة الأممالمتحدة لأمريكا اللاتينية, انتهي إلي ضرورة استخدام الدول النامية لقدر من الحمائية في التجارة إذا أرادت أن تتخذ طريقا مستقلا للتنمية.. النظرية تقوم علي أن الأمم الفقيرة في موقف تفاوضي أضعف مع الأمم الغنية في مجال التجارة. تطورت النظرية بعد ذلك مع الماركسية من خلال كتابات روزا لكسمبورج حول الإمبريالية. انتشرت النظرية وذاع صيتها في الستينيات ثم تطورت مع ثيوطونيو دوس سانتوس الذي وصف التبعية الجديدة التي تركز علي البعدين الداخلي والخارجي لعلاقات الدول الأقل نموا, والتي تقبع في الهامش.. كتب أيضا عن النظرية الرئيس البرازيلي السابق فيرناندو كاردوسو حول العلاقة بين المركز والأطراف. نظرية التبعية واجهت تحديات كبيرة مع القدرات الفذة للاقتصاد الرأسمالي علي الحركة والخروج من الأزمات.. انهار الاتحاد السوفيتي فانهارت كثير من الأفكار النظرية حول الشيوعية. لذا كان من الغريب أن أجد بين يدي هذا المؤلف الجديد لأستاذ الاقتصاد البارز الذي علم أجيالا بجامعة الإسكندرية كلية الحقوق, بالإضافة إلي جامعات لندن وباريس والجزائر وبيروت والرباط وتونس والكونجو برازفيل, ومعهد الأممالمتحدة لتخطيط التنمية داكار, ومعهد التخطيط في طرابلس. الدكتور دويدار له مؤلفات عديدة باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية في النظرية الاقتصادية ونظرية التطور والاقتصاد الدولي والمالي, وتاريخ الفكر الاقتصادي. كتابه عن التبعية الذي يصدر بعد تغير اتجاهات عدد كبير من أساتذة الاقتصاد نحو الليبرالية واقتصاد السوق, لدرجة من الصعب أن تجد كتابات بالعربية عن التبعية حتي لدي المفكر الاشتراكي الكبير الدكتور سمير أمين, الذي يعيش في الخارج منذ بداية الستينيات. كتاب الدكتور دويدار يبدأ بمقدمة عامة يستهلها بمقولة: لا يمكن فهم الحركة العامة للاقتصاد المصري في أي مرحلة من مراحل تطوره في التاريخ المعاصر, إلا في إطار الحركة العامة للاقتصاد الدولي المعاصر, الذي هو بطبيعته, رغم التغيرات الهيكلية والزمنية التي طرأت, ومازالت تطرأ عليه, اقتصاد ذو طبيعة رأسمالية. الباب الأول يتحدث عن الإطار الدولي للحركة العامة للاقتصاد المصري, ويتضمن فصولا حول خصائص الاقتصاد الرأسمالي, ويتحدث عن مرحلة الصراع الحالية من أجل إعادة صياغة نمط الهيمنة في ظل تغير أطراف الصراع بظهور قوي اقتصادية دولية جديدة, وتغير محددات القوة الاقتصادية الوطنية لأطراف الصراع, وقيام التكتلات الاقتصادية الإقليمية في تداخلها وصراعاتها واستمرار الهيمنة النسبية لرأس المالي الأمريكي. ويتطرق الدكتور دويدار إلي اتجاه الأزمة الذي يغلب علي حركة الاقتصاد الدولي المعاصر منذ ستينيات القرن الماضي ونمط السلوك العدواني لرأس المال الغربي تجاه الدول العربية, خاصة من الناحية العسكرية. أما الباب الثاني, فيتحدث فيه المؤلف عن الحركة العامة للاقتصاد المصري خلال النصف الثاني من القرن العشرين, وهو ما يستوعب عددا كبيرا من صفحات الكتاب يتعرض فيه للمفاهيم المنهجية والنظرية الأساسية المكونة لركيزة الرؤية الاستراتيجية. أما الفصل الثاني الذي يستغرق تفاصيل كثيرة, فيرسم من خلاله معالم الحركة العامة للاقتصاد المصري في النصف الثاني من القرن العشرين من مسألة الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات, وإعادة إدماج الاقتصاد المصري في الاقتصاد الرأسمالي العالمي, والاتجاه الريعي للدولة في مصر وسياسة الليبرالية الاقتصادية, وفتح باب الاقتصاد المصري علي قوي السوق الدولية الاحتكارية. بصريح العبارة, لم يدهشني الكتاب, رغم الاحترام الكبير الذي نكنه للدكتور محمد دويدار, لأنه لم يقدم تفسيرا جديدا يختلف عن التغيرات التي قدمها الاقتصاديون المصريون في السبعينيات مثل الدكتور محمود عبدالفضيل, والدكتور جودة عبدالخالق, والدكتور رمزي زكي رحمه الله والدكتورة كريمة كريم عن الاقتصاد الريعي وعن تبعية الاقتصاد المصري للاقتصاد العالمي. لقد حدثت تغيرات ضخمة في الاقتصاد العالمي.. انهارت امبراطوريات.. وقامت امبراطوريات خلال40 عاما.. انهارت نظريات وظهرت نظريات.. اختلف الواقع.. روسيا التي كانت تقود الاتحاد السوفيتي السابق, تصحح اقتصادها نحو الليبرالية واقتصاد السوق.. الهند تسعي إلي النمو من خلال التكيف مع الاقتصاد العالمي.. الصين تحقق معجزة اقتصادية ولا تصف نفسها بالتبعية في تفاعلها مع الاقتصاد الدولي أصبحت أكبر مصدر في العالم, دول أمريكا اللاتينية التي أنتجت وروجت نظرية التبعية تخلت عنها وسعت إلي التنمية من خلال التفاعل مع الاقتصاد الدولي. لقد ظهرت منظمة التجارة العالمية لتضع معايير التجارة الحرة في النظام الدولي وانضم إليها معظم دول العالم. مرة أخري, لقد أدهشني تمسك الدكتور دويدار بنظرية التبعية, رغم العواصف التي طرأت علي الاقتصاد الدولي. لم يعد هناك بد من التكيف بديلا عن المواجهة. كتاب الحركة العامة للاقتصاد في نصف قرن رؤية استراتيجية بين التبعية واقتصاد تجارة الشنطة من إصدار دار نشر سطور الجديدة, يقع في237 صفحة.