لقد غلبت علي العديد من الكتاب وأهل الفكر نبرة من اليأس عكستها بعض كتاباتهم حتي إن أحدهم تساءل بشكل مباشر... لماذا نكتب؟؟.. وبرغم وجاهة التساؤل وما يعكسه من روح دائما ما تعتمل في وجدان معظم أهل الفكر الشاخصة أبصارهم دوما للكمال. فإنني لست من أنصار هذه النزعة ايمانا مني بالقدرة الخلاقة علي غرس فسيلة حتي ولو تنادينا ليوم الحساب. ومن ثم فإن موضوعنا اليوم يرتبط ببعض التأملات الحائرة التي تبدو أحيانا وتخبو أخري, وليس مرتبطا بحالة ذهنية هروبية من واقع معايش, إذ يحتاج منا إعمال الفكر دربة من نوع خاص تخرج به من تكالب قضايا الهم العام عليه إلي واحة من واحات الانطلاق الحر في عوالم لم يغشها ما غشي حياتنا من ضبابية مقيتة. ومن هذا المنطلق فمنذ فترة ليست بالقصيرة ودلالات اللون الأصفر تلح علي مخيلتي لا سيما مع هيمنته فوق رؤوس الكثيرات بشكل لافت للنظرة الأولي وعلي اختلاف المستويات الاجتماعية, ومن ثم أسلوب المعالجة راقية كانت أم شعبية. إذ أحسب أنه نوع من أنواع المواكبة غير المباشرة للنموذج الغربي ولو حتي في الشكل ما دمنا لم نستطع تمثل المضمون, أو أنه يمثل رد الفعل الخفي لدي البعض إزاء قضية الحجاب وعدم حسمه أمرها لديه اجتماعيا, وليس دينيا بالطبع. الأمر الذي دفعني للتعمق في الرؤية عساني أجد في التراث الوجداني للإنسانية ما يتجاوز المقولة الخلدونية الشهيرة في كلف المغلوب بتقليد الغالب, أو أن يؤكد ما يدعيه من أن الحدية المجتمعية لا تتبدي في جانب واحد بل لها ما يقابلها بنفس الدرجة وعكس الاتجاه. فعلي المستوي الوجداني ارتبطت كتب التراث باللون الأصفر في نعتها بالكتب الصفراء مما دفع ببنت الشاطيء للدفاع عنها بالقول انها صفرة الذهب لا صفرة البلي. كما وصفت البقرة الشهيرة في القرآن باللون الاصفر الفاقع مرتبطا بإسعاد الناظرين, وهو ما أكدته عليه معظم الدراسات الخاصة بدلالات الألوان بل وتجاوزت الأمر إلي ارتباطه بسطوع الشمس مما يشي بالاستنارة وتداعي الأفكار تفردا وتطورا وجدة. بل فقد اعتبر ذلك السطوع علي المستوي الإنساني كاشفا للعلاقات بين الأفراد وضوحا وانصهارا وتجردا وأملا, ومن ثم فلا عجب أن كان الأصفر هو لون الشرائط علي أردية النساء في أزمات خلت للتدليل الرمزي علي انتظار رجالهم عند العودة من الحروب. وفي معرض الارتباط بالشمس وشدة سطوعها يصبح اللون الأصفر هو لون فصل الصيف, في حين يمثل الربط بينه وبين صفرة الذهب النقاء والشرف والاخلاص البين والشجاعة مما جعله لدي بعض الآسيويين اللون المثالي لشارات المحاربين, فضلا عن تمثيله لقيمة النماء لا سيما بربطه بلون سنابل القمح. ولسنا بحاجة للاشارة لقدسيته لدي الهندوس استلهاما من كون لون البقرة المقدسة لديهم. ومن طرائف بريق اللون الأصفر ما ذكرته احدي الدراسات من كونه ثلاثة أرباع انتاج الأفلام الرصاص باللون الأصفر الذهبي كي يسهل ظهورها بين الأدوات المكتبية. ولكون اللون الأصفر من ألوان الحياة الرئيسية فيبدو أنه قد جمع بعض متناقضاتها بين جنباته بحيث عكست أيضا ما يرتبط بأكدار الحياة التي ما لحوادثها بقاء. فإذا كانت صفرة كتب التراث قيمة فمثيلتها في الصحف الصفراء سوءة منذ صك هذا التعبير في مطلع القرن الماضي مرادفا لصحافة الاثارة. كما أصبحت الضحكة الصفراء دلالة علي العدوان السلبي حسب التعبير النفسي الذي يعطي فيه صاحبه من طرف اللسان حلاوة أو يظهر نيوبه, وكأن الليث يبتسم, ومن توابعها النفس الصفراوية أي شديدة الغيرة والحنق وهي تختلف عن الوجه الأصفر بحكم المرض, أو عن الجنس الأصفر الذي وصفه ماوتسي تونج يوما بأنه لو انطلق من عقاله لساد العالم أجمع. وكما ارتبطت الصفرة بالفرح والتألق فقد مثلت علي الجانب الآخر الحزن الشديد فضلا عن الشحوب والضعف والهزال, فالنوح والحداد علي الميت لدي أهل بورما لونه أصفر, والاشارة قديما للحجر الصحي والأوبئة كان بالعلم الأصفر, بل حتي ظهور الممثل في مسرح العصور الوسطي متشحا بالصفار كان يعني اشارة رمزية للموت. وقد صور إليا أبوماضي الشمس في رائعته الحزينة المساء وهي بادية خلف السحب... صفراء عاصبة الجبين, وليشجينا عبدالوهاب عن الورد مسائلا الأصفر عن سر صفرته من السقم أم من فرقة الأحباب..؟ وإلي جانب هذا التقابل فقد مثل اللون الأصفر نوعا من الوسطية الحذرة, فقد كان قديما لون السجن في فرنسا, وهو لون اشارة الاستعداد المرورية قبل الانطلاق وكذا لون الإنذار الذي بعده الطرد من ساحة النزال الكروي, ويبقي ختاما أن الأصفر كان لون النساء في الفن المصري القديم تمييزا لها عن لون الرجال المائل للبني بحكم الخروج للعمل والتعرض لأشعة الشمس في حين تحتفظ المرأة بنضارتها ممثلة في اللون الأصفر, وإن كنت أحسب في غمرة أسرار الحضارة الفرعونية أن ثمة سببا خفيا لهذا التمييز قد يمكننا تبينه إذا ما أعدنا قراءة المقال من جديد!