في مساء الجمعة25 ديسمبر2009 بينما العالم الغربي يحتفل بميلاد السيد المسيح ودع المثقفون العرب بصفة عامة والمثقفون الفلسطينيون بصفة خاصة كبير المثقفين الفلسطينيين وعميدهم د. أنيس صايغ(1931 2009) الذي كما كتب عن نفسه. لم يقطع بحر المانش سباحة, ولم يهبط علي سطح القمر, ولم يتسلق قمة افرست, ولا فاز في ملاكمة أو مصارعة, ولم يحصل علي أوسكار أو نوبل, ولم يملك ثروة تغري الملايين ولا صوتا يطرب الملايين, ولم يسط علي حكم أو مصرف. هذا الذي قضي من حياته نحو ثلاثة أرباع قرن مع سياسيين وكتاب ومثقفين, فلم تكن فلسطين بالنسبة له قضية فحسب, بل نمط حياة. ولد راحلنا الفاضل في3 نوفمبر1931 بمدينة طبريا الفلسطينية الواقعة علي شاطيء بحر الجليل. بدأ دراسته بها في المدرسة الحكومية الابتدائية للبنين, ثم أتم دراسته الثانوية بمدرسة الفنون الإنجيلية بمدينة صيدا اللبنانية عام1949 وكان قد انتقل إليها بعد احتلال العدو الصهيوني لمدينة طبريا سنة1948, التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت(1949 1953) وفيها حصل علي شهادة بكالوريوس العلوم السياسية والتاريخية, وعين استاذا للتاريخ العربي في القسم الفرنسي بالجامعة الأمريكية. عمل مستشارا للمنظمة العالمية لحرية الثقافة. سافر بعد ذلك الي إنجلترا وفيها التحق بجامعة كمبردج(1959 1964) ومنها حصل علي درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والتاريخ العربي. وتم تعيينه استاذا بجامعة كمبردج في قسم الأبحاث الشرقية. أسس العديد من المجلات الثقافية منها: شئون فلسطينية, و المستقبل العربي و قضايا عربية, وشئون عربية. كما عمل مستشارا لجريدة القبس الكويتية. كان أول من أطلق مشروع الموسوعة الفلسطينية في عام1966, ثم في الفترة(1977 1992) أشرف علي مشروع الموسوعة الفلسطينية, وذلك بغرض جمع الشتات الثقافي وذاكرة فلسطين تاريخا وجغرافيا وتقاليد ومواويل, ثم رئيسا لتحريرها منذ عام1982, ورئيسا لمجلس إدارتها منذ عام1988, ومن هذا اختار لغة البحث العلمي الهادي والبعيد عن الانفعالات والأهواء. كما شارك في ادارة وتحرير خمسة مشاريع موسوعية أخري في بيروت والقاهرة ودمشق وبغداد. اشرف علي تحرير الزاوية الثقافية والتاريخية في جريدة النهار اللبنانية والتي ماكثيرا كنت استمتع بمطالعتها وقت أن أكون موجودا ببيروت في مهمة علمية, كما عمل مستشارا للمنظمة العالمية لحرية الثقافة. اهتم باصدار نشرة رصد إذاعة إسرائيل, ومن ثم تعرض للعديد من محاولات الاغتيال علي يد العدو الصهيوني, وفي إحداها بترت أصابع يده اليسري وفقد إحدي عينيه وتعثرت الرؤية عنده, لكن من جميعها أنقذه الله. وظلت أصابع يده اليمني تعبث بالأقلام والأحبار والمقالات حتي آخر يوم من حياته, كان يؤمن أن فلسطين لا تستعاد إلا إذا كانت المعرفة في خدمة النضال, كي تكون التجربة النضالية وسيلة لتطوير المعرفة. كان يحلم بالعودة الي منزله القديم بطبريا, وفي هذا يقول في ختام سيرته الذاتية:( في طبريا وعلي الطريق الي طبريا, ومن أجل طبريا يطيب الموت, لأن المرء يموت واقفا, وكأنه لا يموت. هناك يتساوي الموت مع الحياة حلاوة, ودون ذلك تتساوي الحياة مع الموت مرارة). ذهب د. أنيس صايغ الي العاصمة الأردنية عمان مع شريكة حياته الأردنية لقضاء فترة أعياد الميلاد مع ابنته, ولكن أزمة قلبية دهمته نقل علي أثرها الي مستشفي فلسطين, وفارق الحياة واقفا, وخرج من عالمنا كجبار بأس في مساء الجمعة25 ديسمبر2009. إنه بالحقيقة قامة تستعصي علي القياس.