اليوم بداية العام الرئاسي الجديد الذي يستكمل أول فترة رئاسية مصرية, تقوم علي الانتخاب المباشر لمنصب رئيس الجمهورية منذ ست سنوات, وقبل أن يصبح هذا الانتخاب الحر المباشر حقيقة واقعة في الحياة السياسية المصرية لأول مرة منذ أن نشأت الدولة الحديثة في مصر, لم يدرك الكثيرون آنذاك مغزي ذلك الحدث في الحياة السياسية المصرية, ولم يستطع الكثيرون أيضا التنبؤ بما سوف تؤدي إليه تلك الخطوة الكبري علي طريق التحول الديمقراطي, وتدافع كثيرون نحو المزايدات علي تلك الخطوة أو التقليل من نتائجها أو المطالبة بقفزات غير محسوبة وإنكار مفهوم الزمن في تطوير الممارسة الديمقراطية. جاءت تجربة الانتخابات الرئاسية المباشرة بمفهوم البرامج الانتخابية التي تمثل أسس التعاقد بين المرشحين والناخبين. وطرحت حقيقة أن تقويم التجربة لابد أن يستند إلي حقائق ماورد في البرنامج الانتخابي, وما تحقق علي أرض الواقع. ولم تعد الفترة الفاصلة بيننا وبين الانتخابات الرئاسية الجديدة طويلة. والحوار المجتمعي حولها يزداد سخونة يوما بعد آخر. ولكن دراسة ذلك الحوار وفهم أبعاده تشير إلي أننا نوجه الطاقات فقط صوب ما هو قادم, في حين لم يحظ الذي تحقق بالاهتمام الكافي. وهذا يعني أننا نغفل تماما فكرة تراكم الخبرة, والإنجاز في التطور الديمقراطي. وهذا يعني أيضا أننا سوف نقدم علي الانتخابات المقبلة ونحن مستعدون فقط للاستماع إلي الوعود الانتخابية دون مرجعية واضحة قابلة للقياس أو التقييم فيما بعد. وفي هذه الحالة سوف تصبح الوعود الانتخابية شعارات فارغة وكلمات جوفاء وخديعة كبري. فإذا كانت مسوغات الانتخاب هي الوعود ولاشيء غيرها, فإننا نعيد إنتاج الأوهام التاريخية القديمة التي تهب حجر الفيلسوف القدرة علي تحويل كل المعادن إلي ذهب أو تعيد القوة والحيوية إلي كل شخص يستحم في نافورة الشباب. لذلك يبدو من المهم جدا أن ننظر إلي ما تحقق في بلادنا جراء الانتخابات الرئاسية الأولي التي جرت قبل خمس سنوات بالقدر نفسه الذي ننظر به إلي الأمام, متطلعين إلي الانتخابات المقبلة. فالفهم العميق لما جري في مصر خلال تلك السنوات يمثل صمام أمان ضد ما قد يجري من أخطاء في الحوار والحركة السياسية بشأن تلك الانتخابات وعلينا أن نعي جيدا حقيقة الذي جري بنجاحاته وإخفاقاته, وأن ندرك أسباب النجاح وذرائع الإخفاق وطبيعة المناخ الذي شهد مظاهر النجاح ومظاهر الإخفاق. وهذا الوعي وحده كفيل بتسديد خطانا وترشيد اختياراتنا في المرحلة المقبلة سواء علي مستوي الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية أيضا. فالوصول إلي إقرار حق الشعب في الاختيار الحر المباشر لرئيس الجمهورية لم يكن أبدا منقطع الصلة بعشرات التطورات الكبري التي أصابت مختلف جوانب الحياة في مصر. فالحياة السياسية مرتبطة بما يجري في كل المجالات الأخري. وفاعلية ما يحدث في الحياة السياسية تشير إلي مستوي فاعلية ما يجري في الحياة الاقتصادية والاجتماعية, وهذا هو معني التوازي بين الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أشار إليه الرئيس مبارك في مناسبات كثيرة. بدأ الرئيس مبارك بالإصلاح الاقتصادي قبل الإصلاح السياسي, وكان ذلك خيارا منطقيا حريصا علي الأمن والاستقرار. فقد كانت الأوضاع الاقتصادية لاتسمح بالخضوع لتقلبات السياسة. وحينما حقق الإصلاح الاقتصادي نتائجه, جاء الإصلاح السياسي بخطوات واسعة. وهناك أيضا ضغوط يمارسها الماضي البعيد والقريب علي حياتنا المعاصرة. وفي مصر اليوم أجيال من الشباب لم تعايش صعوبات الحياة ومشكلاتها التي كانت قائمة ولا تزال تلقي بتأثيراتها علي الواقع الراهن, أجيال من الشباب لاتعرف الأزمات والاختناقات الاقتصادية التي عشناها, وربما انضم إليهم آخرون في عدم إدراك مغزي التطورات الإقليمية المحيطة وتأثيراتها في الحياة المصرية. ............................................................. في مقابلة صحفية أجريتها مع الرئيس حسني مبارك قبل أكثر من خمس سنوات, سألته عن لغة الحوار السياسي, وكنت أريد أن أتبين موقف الرئيس من اللغة المستخدمة التي تنأي عن الأدب السياسي الرفيع في اللغة واللهجة. فأشار إلي أنه كان يتوقع ذلك في إطار الحراك السياسي الذي أطلقته مبادرة تغيير المادة76 من الدستور.. ولم يبد شيئا من الغضب تجاه أدب الحوار السياسي في مصر. وبعد خمس سنوات, فإن لغة الحوار تراوح مكانها وتخيف أنظمة حكم كثيرة مجاورة في أن يصبح هذا هو حالها فيما لو أقدمت علي تطور ديمقراطي مماثل. خمس سنوات طالت فيها ألسنة المعارضة أكثر, وتزايدت مغالطاتها, ولم تقترب كثيرا من عقلانية الخطاب والممارسة التي يمكن أن تدفع بنا خطوات إلي الأمام. والحقيقة هي أن نجاحنا السياسي مرتبط أيضا بالرشاد في تفكير المعارضة وممارساتها, وليس فقط في التخلص من التشريعات والقوانين التي يرون أنها معوقة للتطور الديمقراطي. فالقوي المعارضة الآن في مصر ليست إلا ألسنة طويلة وقواعد شعبية بالغة الضآلة إن وجدت. وهي في كل الأحوال حريصة علي أن تساوي بين حضورها الإعلامي وحضورها الشعبي, وهو وهم لن ينطلي علي أحد, بما في ذلك أقطاب المعارضة أنفسهم. خمس سنوات مضت منذ أن أعلن المصريون اختيارهم لولاية جديدة للرئيس مبارك.. علي الأرض إنجازات تعاقبت لا سبيل إلي إنكارها, وخطوات قطعناها إلي الأمام, بينما تظل غالبية المعارضة تراوح مكانها في أفنية العجز والاتهام. ولعلي أشير إلي خطوة في الاتجاه الصحيح, أقدمت عليها أحزاب المعارضة, حين قررت خوض الانتخابات البرلمانية في تفاعل نشيط ومطلوب مع التطورات السياسية المصرية, وبقي أن تمارس هذه الأحزاب نشاطها الانتخابي بعقلانية ومسئولية, نواجه بها كثيرا من السلبيات التي تكتنف إجراء الانتخابات من استخدام الدين والمال والبلطجة في سبيل الوصول إلي البرلمان. خلال السنوات العشر الماضية ظهرت عشرة أحزاب سياسية, ليصل عدد الأحزاب لدينا إلي أربعة وعشرين حزبا. ولاتزال الأقوال منثورة حول التضييق علي الأحزاب من جانب الحزب الوطني. ومن بين هذا العدد الكبير من الأحزاب فازت أربعة منها فقط في الانتخابات التشريعية الأخيرة. لا أحد يسأل كم عدد الأحزاب, التي نريدها ؟ وإلي متي نقبل الانقسامات بين الاحزاب لأن قيادة طامعة في الزعامة أخفقت فرأت أن تنشق بحزب جديد يحقق أحلام الزعامات الناشئة. فحينما تعجز الغالبية العظمي من المصريين عن معرفة عدد الأحزاب في بلادهم, فعلي من نلقي اللوم..هل علي الأحزاب أم علي المصريين؟ لم يعد الهجوم علي الحزب الوطني بدعوي أنه وراء عجز الأحزاب مقنعا. كما لن يكون تزوير الانتخابات ذريعة تبرر الفشل الكامل للبعض في الحصول علي ثقة الناخبين. ولست أعرف حزبا من الأحزاب السياسية في مصر استعد للانتخابات المقبلة وقبل موعدها بزمن طويل مثل الحزب الوطني, ومقار الحزب مفتوحة أمام الجميع ليعرف كيف تؤخذ القضايا بالجدية التي تلائمها. ............................................................. من بين إنجازات السنوات الخمس الماضية أتوقف عند أهم ثلاث قضايا تشغل المصريين اليوم, وهي: البطالة والتعليم والصحة.. بداية أقول إنه من غير المنطقي أن نصل إلي حلول كاملة وناجعة في مواجهة تلك المشكلات الكبري التي تراكمت عبر سنوات طويلة تمتد إلي ما قبل ثورة يوليو. فنحن لا نواجه مشكلاتنا في المطلق, ولكننا نواجهها بقدر ما لدينا من قدرات وإمكانات. وليست هناك حكومة في العالم ترغب في أن يظل لمشكلة ما وجود في مجتمعها. البطالة في مصر قضية اقتصادية واجتماعية وثقافية معقدة, ففي الوقت الذي يشكو فيه البعض من البطالة, هناك أيضا من يشكو نقصا في العمالة. والحقيقة أن العمالة التي نريدها الآن هي العمالة الماهرة والمنتجة, ومع ذلك فإن معدلات البطالة في مصر تخضع للكثير من التضخيم والتهويل بأرقام غير موثقة. والحقيقة هي أن معدل البطالة في مصر في مستوي معدلات البطالة في أقوي الاقتصادات في عالم اليوم. ففي الولاياتالمتحدة وصل معدل البطالة إلي9.3% وفي فرنسا9.5% وفي إيطاليا9.1%, وفي مصر انخفض معدل البطالة إلي9.4%, حيث تمكن الاقتصاد المصري من توفير نحو3.5 مليون وظيفة خلال العامين الأخيرين, ومع ذلك فإن قضية البطالة حين نقارنها بالأوضاع في الدول الأخري لابد أن يؤخذ في الاعتبار السياق الثقافي والاجتماعي. ............................................................. نحن مجتمع يحقق النمو السكاني فيه معدلات عالمية كبري, في الوقت الذي لم يتعاف فيه الاقتصاد المصري من كل أوجاعه. وهناك مستويات الرضا الوظيفي المتدنية لدي الذين يعملون ويعتبرون أنفسهم عاطلين عن العمل, لأنهم لايعملون في مؤسسات حكومية أو خاصة كبري, تحقق لهم الدخل الذي يرجونه. وكذلك فإن السياسات الاقتصادية الجديدة التي لابد أن نعمل بها تشترط التوظيف المنتج وليس زيادة عدد البطالة المقنعة. وهذا يتطلب مستويات أخري من الوعي بالمهارات اللازمة لسوق العمل. في مواجهة البطالة حققنا نجاحات ملحوظة, انخفضت بسببها معدلاتها, ولكن البعض يري في بعض العاطلين عن العمل من الجيران أو الأقارب مشكلة قومية كبري ضخمة وهائلة. وفي التعليم لاتزال لدينا مشكلات, ومع ذلك فإن السنوات الخمس الماضية شهدت بناء خمس جامعات حكومية جديدة وأكثر من عشر جامعات خاصة, وأضيف إلي عدد الفصول الدراسية نحو ستة آلاف فصل جديد, ليصل عدد المدارس الحكومية إلي52 ألف مدرسة, استطاعت تخفيض كثافة الفصول الدراسية من40 تلميذا عام2000 إلي30 تلميذا الآن, وإذا أضفنا إلي هذه المدارس الحكومية المدارس الخاصة فإننا حققنا هدف إتاحة فرص التعليم الأساسي لجميع المصريين. وفي الصحة هناك تطور ملموس في عدد المستشفيات والوحدات الصحية, وهناك تطور نوعي في الخدمات الصحية المقدمة, وأصبحنا قادرين علي توفير الرعاية الصحية لكل المصريين في المدن والقري علي السواء, بل إن عدد المستفيدين من نظام طب الأسرة قد وصل إلي نحو عشرة ملايين مواطن تخدمهم2000 وحدة, أنشئت خلال السنوات الخمس الأخيرة. الإنجازات كثيرة ولكن حجم المجتمع المصري يتمدد كما ونوعا, ومن الطبيعي أن تظل لدينا مجالات للعمل في التعليم وفي الصحة وفي كل ميدان, ولكن دون نكران الذي قد تحقق, وهو بكل المعايير كبير وكثير. نحن الآن نخطو إلي عام جديد في ظل رئاسة الرئيس حسني مبارك, ننتظر فيه المزيد من الإنجازات, ونتوقع فيه انحسار الكثير من المشكلات, ولكن ذلك الإنجاز المتوقع مرهون بالإجماع وحشد الطاقات جميعا, وتوجيهها نحو أهداف معروفة للجميع, وبشرط ألا يخضع الإجماع بيننا والأهداف التي نسعي نحوها للمزايدات وألاعيب الانتخابات. [email protected]