الفخ الذي وقعت فيه الدولة بحسن نية ووجدت نفسها داخله مكبلة لا تستطيع الخروج منه هو فخ بعض السياسات التي تم اتباعها منذ منتصف القرن الماضي وأصبحت سياسات جامدة لم تتطور مع المجتمع, ومن ثم بدلا من أن تساعد المجتمع, وتحقق أهدافها التي صدرت من أجلها ولتحقيق العدالة الاجتماعية فاذا بها تنقلب بشراسة لتعمل ضد مصالح المجتمع مثل نظام التعليم ومقاومة خطوات إصلاحه. هذه الأوضاع تتطلب وقفة شجاعة وطنية تعيد النظر في تلك السياسات وتقييمها كي تتواءم مع المتغيرات الجديدة والاحتياجات الجديدة للمجتمع الذي تغيرت تركيبته الاجتماعية والاقتصادية. تعالوا نفتش في ملفاتنا وأوراقنا لإعادة تنظيم بعض السياسات واصلاحها حتي تكون في خدمة المجتمع وتتناسب مع التغيرات التي طرأت علي النظام السياسي والنظام الاقتصادي. هل نطرح مثلا واحدا من تلك النوعية؟ لنأخذ مثلا فخ الدعم والفزع منه, وهنا لن نردد كل ما قيل عن الدعم كإسطوانة مشروخة مللنا سماعها منذ أكثر من35 عاما: الدعم لا يصل إلي مستحقيه؟ الدعم يستنفد إمكانيات الدولة؟ لا مساس بالدعم؟ البحث عن توافق مجتمعي لقضية الدعم. تظهر تلك القضية حينا وتخبو أحيانا وفقا للظروف السياسية السائدة وعندما تحتدم الأسعار تلجأ الدولة إلي آليات ذات تأثير عاجل وسريع يشفي الأعراض دون المرض مثل نظام البطاقات. علي أية حال فإن القاهرة شهدت خلال الاسبوعين الأخيرين رؤية خارجية لقضية الدعم نظمها المركز المصري للدراسات الاقتصادية, جاء أولها فيما يتعلق بدعم الطاقة, وثانيها تتعلق بالدعم بشكل عام وقد تناولهما خبراء من منظمة التجارة العالمية في الأولي وخبراء من صندوق النقد الدولي في الثانية. فماذا قالوا وكيف يرو ن حل هذه المعضلة: فخ الدعم والفزع منه؟ قبل طرح هذه الرؤي هناك تأكيد واضح ومحدد من الدكتور علي المصيلحي وزير التضامن الاجتماعي أن الدعم موش عيب والدعم ضرورة وسوف تستمر فيه الدولة ولكن إزاي؟ نظام الدعم يجب أن يحقق استهداف الفقراء وفق نظام للمعلومات بدقة يحدد من هم في حاجة إلي الدعم وشديدي الاحتياج إليه, ويجب أن يكون الدعم متناسبا معهم كأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية. بعد هذا التأكيد هناك سؤال يدور حول عيوب النظام الحالي للدعم, حيث هناك قصور في هذا النظام ولا يحقق العدالة الاجتماعية في رأي د.علي المصيلحي وإذا كان هدفه العدالة فالواقع لا يحقق ذلك. وليس هذا فحسب, نجد مثلا المهندس سامح فهمي وزير البترول يتحدث عن الآثار السلبية للنظام الحالي للدعم خاصة دعم الطاقة فيقول إنها تمثل زيادة الأعباء علي الموازنة.( خسر قطاع الأعمال دعما مباشرا قيمته368 مليار جنيه في السنوات العشر الأخيرة) وأيضا زيادة الاستهلاك والاسراف فيه وعدم عدالة التوزيع, فمثلا انبوبة البوتاجاز تكلف الدولة50 جنيها بدعم93% من سعرها لتباع بسعر2,50 جنيه للمواطن ولكنها تباع في السوق السوداء بسعر10 15 جنيها, كما ظهر أخيرا تهريب المواد البترولية كالسولار بسبب انخفاض سعره محليا ويدعم بنسبة57%. وبالأرقام بلغ دعم المنتجات البترولية والغاز63 مليار جنيه هذا العام, بينما الانفاق علي التعليم45 مليارا, والانفاق علي الصحة17 مليارا أي أن دعم المنتجات البترولية بالشكل الحالي غير العادل يساوي ما تنفقه الدولة علي التعليم والصحة. بمزيد من البيانات التي طرحتها دكتورة ماجدة قنديل رئيس المركز المصري للدراسات الاقتصادية فإن دعم الطاقة يأخذ67% من إجمالي الدعم, بينما الغذاء20% والاسكان1% فقط. سؤال: هل هذا معقول؟ وإذا سردنا مزيدا من الأرقام للتحليل والتدليل فإن أكثر من نصف ميزانية الدولة تذهب إلي الدعم والأجور التي تلتهمها فيتبقي القليل للخدمات والاستثمار في بلد يسعي إلي التنمية وتوفير فرص العمل وتحسين الخدمات. وهل سألنا أنفسنا من أكثر المستفيدين من دعم الطاقة؟ الاجابة واضحة فالأغنياء هم المستفيدون, أما فقراء هذا المجتمع ونسبتهم40% من السكان فيستفيدون بنسبة3,6% فقط من دعم الطاقة. هل هناك خلل أكثر من ذلك ونظام للدعم افتقد لأبسط الأساليب لتحقيق العدالة الاجتماعية واستقر عند هذا الوضع وهناك فزع من الاقتراب منه, وكل ما جري لإصلاحه عبارة عن محاولات مؤقتة لتحقيق نوع من الرضا. لقد تحدث المجتمع كثيرا في هذه القضية دون الوصول إلي اتخاذ للقرار المناسب, وهناك عشرات من الدراسات حولها بقيت حبيسة الأدراج منها علي سبيل المثال الدراسة التي أجراها عام1980( منذ ثلاثين عاما) خبير شاب في منظمة العمل الدولية د.سمير رضوان مع الخبير العالمي بنت هانسن وكان أحد معاونيهم د.عثمان محمد عثمان( وزير التنمية الاقتصادية حاليا) والذي قام فيما بعد بإعداد دراسة متميزة عام1991 وكلتا الدراستين حددت بوضوح دائرة الفقر والفقراء الذين يجب أن يذهب إليهم الدعم. دعونا إذن نتفق علي أن النظام الحالي للدعم غير كفء ويمثل استنزافا لموارد الدولة ولا يحقق العدالة الاجتماعية. فإذا كان الأمر كذلك هل لنا أن نستلهم بعض الحلول من تجارب دولية تحافظ علي نظام الدعم وتوصيله إلي مستحقيه؟ في الدراسات التي طرحت بالمؤتمر ورقة مهمة للدكتور ديفيد كودي الخبير بصندوق النقد الدولي أشار فيها إلي عدة وسائل وآليات لاصلاح نظام الدعم ولكنه تحدث عن نقطة مهمة يجب أن ندركها قبل عملية الاصلاح وهي وضع استراتيجية لإعداد الناس للاصلاح تعتمد علي توضيح حجم أعباء الدعم وعدم كفاءته وتحويل الفرق إلي استثمارات عامة للنمو والتنمية لحماية الأفراد من ارتفاع الاسعار, وتوضيح الاستثمارات العامة التي سوف يخصص لها الوفر وتوضيح البرامج التي سوف تحمي الفئات الفقيرة, وإعداد استراتيجية لتحسين كفاءة المصانع كثيفة( عالية) استخدام الطاقة في إنتاج سلع تصدرللخارج كالأسمنت والأسمدة والمنتجات المعدنية, والاصلاح الفوري للدعم الذي يذهب إلي الأغنياء ووضع خريطة للأمان الاجتماعي وأن كل هذا يأتي في إطار متدرج. تلك كانت طرحا لأحد الملفات الجامدة التي لم تواكب التغيرات التي طرأت علي المجتمع وكتب عليها ممنوع الاقتراب وظلت مليئة بالفساد وعدم العدالة وعدم الكفاءة وتحقيق مصالح مجموعات علي حساب الفقراء الذين أنشئ نظام الدعم لمصلحتهم فهل يعقل علي سبيل المثال أن تتسلم المخابز طن الدقيق بسعر160 جنيها ثم البعض يبيعونه في السوق السوداء بسعر يصل إلي2000 جنيه وتقف الطوابير حائرة أمام المخابز؟ ان حجم الدعم الذي يتجاوز160 مليار جنيه يحتاج إلي إدارة جيدة ورشيدة فمن غير المعقول ولا المقبول أن يكون هذا الحجم الضخم من الدعم ثم تظل نسبة الفقراء بالمجتمع علي ما هي عليه. هناك شيء غلط علينا تصحيحه والخروج من الفخ دون فزع.