* كان أحمد ماهر وزيرا من الطراز الرفيع وكاتبا سياسيا من الطراز الأول ومفكرا عربيا يتمتع بمصداقية دولية, جمع في شخصيته بوتقة من الصفات النادرة من الصعب حصرها.. وإنما أذكر منها انتماءه لبيت سياسي عريق,. دبلوماسيته الرفيعة التي لا تخلو من الصراحة, ديناميكيته المخية والاجتماعية, كرامته الشديدة وحساسيته المفرطة وتعامله مع الأحداث بحرفية! أما أدبه الجم وتواضعه وإنسانيته العالية وذكاؤه الفولاذي وثقافته الموسوعية واحترامه وحبه لشريكة حياته العزيزة هدي, فهي مقومات تفوق جميع الصفات. فالرجل كان لورد وكما وصفته دوائر الدبلوماسية الفرنسية مثل آخر فرسان معركة واترلو!. علاقتي بوزير الخارجية أحمد ماهر تكونت عبر نسيج التاريخ, حيث كان جدي أحمد باشا عبدالغفار وزيرا مرتين في حكومة رئيس وزراء مصر الأسبق الدكتور أحمد باشا ماهر, وهو الذي نقله إلي المستشفي بنفسه عقب حادثة الاغتيال الشهيرة حيث كان وزيرا للاشغال وأمر بتشييد ضريح يليق بمقامه وتمثالا يخلد ذكراه... وكثيرا ما كان يحدثني الراحل العزيز عن هذه الفترة المضطربة من تاريخ مصر وعن تفاصيل ممتعة لم أكن ملمة بها.. ثم جمعتني به وقرينته هدي عاصمة النور باريس حيث كان يعمل وزيرا مفوضا بالسفارة المصرية وكنت مبعوثة وصحفية ناشئة فأحاطني وزوجته الجذابة والتلقائية بالاهتمام.. ثم قمت بمتابعة مشواره الدبلوماسي الثري إلي أن أصبح وزيرا للخارجية فزاد تواضعا وإنسانية. برغم أجندته المشحونة.. أما وطنيته ومصريته فلقد سجلها في جميع مراحل حياته وليس أدل علي ذلك من حادثة الاعتداء عليه خلال الصلاة بالمسجد الأقصي بالقدس, كان الرجل يتمتع بضبط النفس وبالعفو عن الإساءة حتي يحافظ علي التزام مصر بالقضية الفلسطينية التي تحملها علي أكتافها منذ1948... أبي أحمد ماهر أن يفرط دائما في مصالح مصر العليا ويذكر له أنه كان مفاوضا صارما خلال اتفاقيات كامب ديفيد ودبلوماسيا محترفا خلال مفاوضات طابا. كان يعد كتابا عن جده أحمد باشا ماهر من المفروض أن يصدر قريبا عن دار الشروق... وأدعو اليوم أن نعد كتابا عن أحمد ماهر الحفيد الذي رحل عن عالمنا يوم26 سبتمبر. فلقد ترك وزير خارجية مصر الرابع والسبعون في تاريخ مصر الدبلوماسي وراءه رصيدا مهما من المقالات الدسمة تستطيع أن تكون مادة مفيدة لتخليد ذكري أحمد ماهر لأنه قام بمعالجة جميع همومنا وهموم الأجندة الدولية في الصحافة المصرية والإقليمية وفي الفضائيات العربية وبرع ماهر دائما في اختيار عناوين ساخرة ومقتضبة مثل الدعوة إلي وليمة بغير طعام أو حديث التناقضات أو الفرق بين السلام وعملية السلام. واتسمت كتاباته أيضا بعبقرية يقودها المنطق السياسي. إن خسارتنا في أحمد ماهر فادحة ورحم الله الفقيد العزيز. عائشة عبد الغفار * في مسيرة الحياة يقابل المرء كثيرا من الناس, منهم من يترك فيه علامة ظاهرة أو أثرا ملموسا أو انطباعا طيبا.. ومنهم من يترك في نفسه شعورا من نفور أو رغبة في ألا يلقاه بعد ذلك لا من قريب ولا من بعيد.. ومنهم من يمر به مر الكرام. الراحل أحمد ماهر وزير الخارجية السابق كان من النوع الذي إذا لقيته تود ألا تفارقه وأن تطول لحظات لقائك به.. لمست فيه في موقفين منفصلين خصلتين حميدتين: التواضع الجم والمجاملة الرقيقة. في إحدي زيارات الرئيس مبارك الخارجية لإحدي الدول الأوروبية كان برنامج الرئيس مشحونا ومكثفا للغاية, وهذا شيء طبيعي في رحلات الرئيس مبارك, إذ يكاد المرافق للرئيس مبارك لا يجد وقتا لإلتقاط أنفاسه وكنت ألهث من مكان إلي مكان ومن مسئول إلي آخر لأحصل علي التصريحات عقب كل إجتماع أو لقاء أو مقابلة.. ولأن طبيعة العمل الصحفي لا تحتمل الإنتظار ولأن الأهرام بطبيعتها هي الأخري لا تحتمل التأخر في إرسال تفاصيل التغطية الخبرية لملاحقة دورة المطبعة والحرص علي أن تتميز الطبعة الأولي بكل التفاصيل قدر الإمكان.. وعقب نهاية لقاء للرئيس مبارك هرولت باحثا عن السيد أحمد ماهر وزير الخارجية وقتئذ ليدلي لي بتصريحات عما دار في اللقاء.. وتمكنت من مهاتفته عبر تليفون غرفته بالفندق.. فقال لي إنه سيخرج فورا, حيث إن هناك لقاء آخر للرئيس بعد نحو15 دقيقة وليس لديه وقت وانه الآن يغير ملابسه استعدادا للقاء الذي سيتم عبر دقائق.. فقلت له إنني في موقف صعب وحرج والأهرام تلاحقني.. فطلب مني الصعود إلي غرفته.. فإذا بالرجل يدلي بتصريحاته ويجيب عن أسئلتي بينما كان يكمل تغيير ملابسه.. شعرت وقتها بأن أنفاسه كانت تتهدج وأنه كان بحاجة إلي هذه الدقائق لكي يستريح جسده ويهدأ قلبه.. لكنها كانت طيبة قلبه وحسه المرهف الذي دفعه ليلبي رغبة صحفي شاب يؤدي واجبه الصحفي المكلف به. مرة أخري عندما كنت مديرا لمكتب الأهرام بالمملكة العربية السعودية أقام السفير علي العشيري قنصل مصر العام في جدة حفلا لتكريمي بمناسبة انتهاء انتدابي وحدثت مصادفة في ذلك اليوم أن الوزيرالراحل أحمد ماهر كان مدعوا إلي مؤتمر في جدة حول حوارالأديان وكان موعد وصوله في الساعة الثالثة بعد الظهر وموعد جلسة المؤتمر في الساعة التاسعة مساء وأنه بعد تناول الغذاء بمنزل السفير سيتوجه إلي الفندق ليستريح بعض الوقت.. فلما علم من السفير أنه مرتبط بغداء آخر بعد ذلك لتكريمي قرر ألا يذهب إلي الفندق ليستريح وأن يتكأ علي أوجاع السفر للمشاركة في تكريمي.. أي مجاملة دقيقة كان يتمتع بها هذا الرجل ولو علي حساب صحته وقلبه. رحم الله أحمد ماهر.. كان إنسانا قبل أن يكون وزيرا. حسن عاشور * بهدوء.. رحل دمث الخلق.. خفيف الظل.. صاحب القفشة الحاضرة.. المفكر الإنسان السفير.. الوزير أحمد ماهر السيد لم تكن لي به معرفة سابقة قبيل توليه منصبه وزيرا للخارجية عام2001 بعد أن كان قد تقاعد من الوظيفة عقب عودته من الولاياتالمتحدة التي شغل بها منصب سفير مصر مباشرة بعد توليه منصب سفير مصر لدي موسكو. الراحل كان يتمتع بثقافة واسعة وحنكة وخبرة تشربها منذ نعومة أظافره في بيت العيلة.. فهو حفيد أحمد باشا ماهر رئيس وزراء مصر(44 1945) وهو جده لأمه.. ولم يقتصر التأثير والتأهيل السياسي علي الجد الذي رحل و حفيده في العاشرة من عمره بل امتد إليه من والده طبيب أمراض النساء والأطفال المهتم بالشأن السياسي والذي كون مكتبة سياسية وأدبية نهل منها الصغير أحمد ماهر فهذا اسمه المركب كما نهل منها شقيقه علي ماهر. في لقاء سابق معه لمجلة نصف الدنيا لدي إعلان تعيينه لمنصب وزير الخارجية بمنزل والدة السيدة زوجته هدي العجيزي بالزمالك استقبلنا الراحل بابتسامته المرحبة ولطف كبير ليحكي لنا عن ذكرياته فيقول: نشأنا علي حب القراءة ومن مظاهر الاهتمام بالسياسة كنت أصدر جريدة وكذلك كان يفعل أخي وكنا نكتبها بخط اليد, وكان هو قارئي الوحيد وكنت أنا أيضا قارئه الوحيد.. ونجري نقاشا بشأن جريدتنا.. ويمضي الراحل مسترسلا في ذكرياته في رده علي سؤال عما إذا كان يتذكر جده بأن والدته ظلت تحمل لهما رسالة في حب الوطن والعمل من أجله وفي الإيمان بمبادئ أساسية وجدتها في المبادئ التي نادت بها الثورة رغم اختلاف الزمن والمزاج. ويتذكر الراحل في لقائه أن عائلته وعائلة زوجته كانتا علي اتصال علي مدي فترة طويلة, حيث كان والده يتابع عملية ولادة حماته حين رزقت بهدي.. زوجته, ويقول: أنا أشكره علي ذلك. وقد شعر والدي يوم زفافنا بسعادة بالغة إذ كان يشعر بأن كلينا من أبنائه. وقد كان الراحل قريبا من العمل السياسي في حرب أكتوبر وعامي77 و78 الممهد إلي بدء عملية السلام. وكان شاهدا علي انهيار الاتحاد السوفيتي, حيث كان سفيرا لمصر لدي موسكو, عمل الراحل مديرا لمكتب محمود رياض ومع د. حسن الزيات والسيد حافظ اسماعيل وحمل لهم جميعا تقديرا وعرفانا بالجميل. وكم نحمل لك عزيزنا الراحل.. نحن من عملنا معك عن قرب في تغطية الأنشطة الدبلوماسية من ذكري كريمة وتقدير ومحبة! إيناس نور