لاشك أن حالة الأمن الغذائي في إفريقيا تثير الخوف, إذ تعاني معظمها انعدام هذا الأمن, وإذا أضفنا إلي ذلك ظاهرة التصحر التي نمت نتيجة الرعي الجائر أو إجهاد التربة الزراعية, أو سوء استخدام المياه في معظم القارة خاصة في دول الصحراء وجنوب الصحراء. حيث أدي الجفاف المتتالي والتصحر, إلي توالي سنوات الحصاد الضعيف, كما حدث في زيمبابوي وزامبيا وإثيوبيا وغيرها, حتي بلغ الجوع درجة تناول فيها الإنسان أوراق الشجر والمحاصيل قبل نضجها, أي قبل وقت الحصاد, كما يذكر تقرير الفاو عن انعدام الأمن الغذائي في العالم عام2002 بالاضافة إلي الصراعات الداخلية والإقليمية, وما يترتب عليها من تدمير شامل في المناطق التي عانت منها, وحتي إذا انتهت هذه الصراعات فهناك رجوع لاجئين يحتاجون إلي عمل وغذاء في وقت دمرت فيه البنية الأساسية ودمرت البيئة, بحيث تضعف الاستثمارات التي توجه للقطاع الزراعي. علي سبيل المثال شهد السودان خلال العقود القليلة التي مضت أكبر عملية تحركات للسكان في القارة الإفريقية سواء داخل الدولة أو حولها أكثر مما حدث في أي جزء من العالم, فقد قدرت وكالة إغاثة اللاجئين في نهاية عام2005 أن هناك نحو700 ألف سوداني يعيشون خارج وطنهم, كما أن السودان كان موئلا لمهاجرين إليه من عدد من الدول المجاورة كتشاد, والكونغو الديمقراطية, وإريتريا, وإثيوبيا والصومال, وأوغندا. كما شهد أكبر عملية نزوح في القارة الإفريقية, هؤلاء الذين تركوا ديارهم إلي مواطن أخري في نفس الدولة بعيدا عن مواطن الخطر, وقدر عدد هؤلاء النازحين بنحو5,8 مليون نسمة منهم2 مليون نسمة حول الخرطوم, ثم كانت الزيادة المطردة للسكان وغيرها مالايسمح التعقيب بذكره كاملا, كضعف مدخلات الإنتاج من تسميد وتقاوي.., فضلا عن عوامل خارجية تمثلت في ارتفاع الأسعار العالمية للحبوب الغذائية نتيجة تحويل الدول المنتجة لجزء من إنتاجها لإنتاج الطاقة كبديل للبترول كالولايات المتحدةالأمريكية, والبرازيل, وفرنسا, مما يؤدي إلي عجز الدول الإفريقية عن استيفاء حاجاتها من الغذاء, وتتفاقم المشكلة عاما بعد عام, ويكفي القول إن تقارير الفاو تذكر أن هناك نحو50 مليون نسمة في إفريقيا جنوب الصحراء يمرون بأزمة الجوع, ومما لاشك فيه أن الوضع يزداد تدهورا وسوءا. وقد كثر الحديث عن زراعة الأرز في السودان الجنوبي, لوفرة المطر ولتربته الصلصالية, وذهب البعض إلي استخدام الآلات, كما قال الراحلجون جارنج متأثرا برؤيته للزراعة الآلية في ولاية أيوا بالولايات المتحدةالأمريكية, ولكن التجارب أثبتت أن التربة هناك صلصالية ثقيلة. وبالتالي حين تجف تتشقق, وتصبح أشبه بالحجر الذي يكسر أسلحة الآلات, وبالتالي فهي في حاجة إلي الزراعة الفردية بصورة أكبر. وهذا معناه أن نتجه إلي عملية التكامل الزراعي نباتا وحيوانا, وهذا التكامل لحسن الحظ يساعد عليه تنوع البيئات الطبيعية في القارة تربة ومناخا, كما يساعد عليه تنوع الخبرة والمعرفة الزراعية, وتنوع المحاصيل من حيث حاجتها إلي الماء والاستثمارات المالية, أي ليس هناك ضرورة أن يقتصر التخطيط الزراعي لكل قطر علي حدة, وإنما مع دراسة المزايا النسبية لكل قطر في محصول معين, فعلي سبيل المثال ليست هناك مزايا لمصر في زراعة نخيل الزيت, إذ تقف أمامها في هذا السبيل الظروف المناخية, ولكن مما لاشك فيه ان خبرتها طويلة في زراعة الارز والتي يمكن أن تمد به الدول الناشئة في زراعته في الغرب الإفريقي والسودان, حيث لم يدخلها كمحصول غذائي إلا مؤخرا, ويمكن لمصر في هذه الحالة أن تخفض مساحات زراعة الأرز في مصر لصالح زراعته في دول إفريقية أخري أكثر ماء, كذلك ليس لمصر ميزة نسبية في التوسع في إنتاج اللحوم الحمراء لحاجتها الكبيرة للأعلاف وضيق المساحة القابلة للزراعة, وكذلك الحال في دولة الكونغو, وبعض الأقاليم في وسط إفريقيا لانتشار ذبابة التسي تسي القاتلة للحيوان, في حين أن هناك ميزة نسبية لدول أخري في مجال تنمية الثروة الحيوانية كما هو الحال في السودان وشمالي ووسط وشمال نيجيريا وإثيوبيا وكينيا بسبب اتساع مساحة المراعي. وفي هذا المجال فهناك تجربة لمحاولة توفير البروتين الحيواني لغانا في إقامة مزارع الأرانب, وهذه لاتتأثر بذبابة تسي تسي, كما يمكن تربية الماعز والأغنام بدلا من الأبقار والخنازير التي تكون مرتعا لهذه الذبابة. وفي ميدان الدواجن وإنتاج البيض فقد ثبت نجاح مصر في هذا المجال, مما يوفر خبرة جيدة للدول التي تعني بهذا المجال, ومعني هذا أن الأمر يقودنا إلي الزراعة خارج الحدود, ولئن كانت هناك مبادرات فردية في هذا المجال سواء من جانب الأفراد أو بعض الشركات محدودة, فلابد أن يتحول ذلك إلي شركات كبيرة أو كنسورتيرم كما هو الحال في البترول حتي تتوفر رؤوس الأموال الضخمة لا المحدودة, وان يدخل في التخطيط الاقتصادي وبرامج الدول المختلفة التي تشترك في هذه المشروعات, وكأنه يزرع في أرضها لاخارجها. كما يجب أن يدخل في الاعتبار أن الزراعة في إفريقيا زراعة مطرية وليست زراعة مروية كما هو الحال في مصر, وإذا كانت زراعة الري مضمونة بدرجة عالية, فليس الحال هكذا في الزراعة المطرية حيث الذبذبات تكون عالية في الأقاليم الهامشية ومنخفضة في أقاليم أخري, من ثم لابد من إجراء تجارب لعدة سنوات وليس لسنة واحدة حتي نتفادي خسائر المدخلات من ناحية, ونتجه إلي محاصيل أخري قد تتحمل هذه الذبذبات سواء عالية أو منخفضة. ولاينبغي أن نغفل دور الدولة مادامت ستستثمر في أرض دولة أخري, ويتمثل هذا الدور في الدعم الكامل للشركات والمؤسسات العاملة في هذا الميدان أو ذاك, في التشريعات والإشراف علي جميع الجوانب القانونية والفنية للاتفاقيات التي يعقدها القطاع الخاص, والتي تضمن الامان لكل طرف من الاطراف وتؤمن الاستثمارات الأجنبية. كما أن دور الدولة في هذا المجال كبير, فهي التي تخصص الأراضي التي تمنحها للمستثمرين, وكذلك الدراسات والبحوث التي أجريت من قبل وإنشاؤها لمحطات التجارب. ومادامت ستقوم استثمارات خارج حدود الدولة, فلابد أيضا من عمل دراسات الجدوي التي تعد قبل القيام بالمشروعات المشتركة. * هذا المقال آخر ما كتبه الدكتور سعودي قبل رحيله يوم الجمعة الماضي. تغمد الله الفقيد بواسع رحمته.