احد المشاهد الخالدة والمتكررة التي تصنع ما يسمي بالمشهد الرئيسي للفيلم, أو بلغة السينما ماستر سين هو أن يقف الأب أمام ابنه ليعترف له بالحقيقة التي أخفاها عنه عشرات السنين: يابني أنا مش أبوك الحقيقي! وتتوالي الأحداث بعد ذلك ليخرج الابن هائما علي وجهه ليبحث عن أبيه الحقيقي مثلما حدث في فيلم الخطايا مع عبدالحليم حافظ وعماد حمدي وهذا بالضبط هو الحوار الذي حدث في الحقيقة مع اثني عشر طفلا وشابا من بين خمسة عشر تم الوصول إليهم, من بين240 طفلا تمت ولادتهم من خلال تلقيح الزوجة بالسائل المنوي المختزن في بنك مني العباقرة الذي انشاه روبرت جراهام في عام1980 بغرض إنشاء بنوك مني للعباقرة والحاصلين علي جوائز نوبل واسماهNobelprizeSpermBank, وكان جراهام مفتونا بفكرة تحسين جينات الجنس البشري, إلا ان جراهام ومساعده سميث وقعا في حيرة, فالبنك الذي يحمل اسم نوبل, ليس به مني من الحاصلين علي جوائز نوبل لرفضهم لهذا العبث اللا أخلاقي, باستثناء واحد فقط, مما جعل جراهام يبحث عن العباقرة والعلماء من الشباب أو متوسطي العمر الذين حصلوا علي جوائز أكاديمية وعلمية ولكنهم لم يحصلوا علي نوبل بعد, ولكن الكثيرين احجموا عن خوض تلك المخاطرة سيئة السمعة. وكان لبنك نوبل للمني كتالوج يحمل رقم كل عينة من السائل المنوي مع وصف مفصل للصفات التي يحملها صاحب العينة مثل: عالم متخصص في البيولوجي, موهوب وعبقري, يعمل باحثا في مجال بيولوجيا الطبيعة, ومرفق معه وصفا دقيقا لشخصيته, ولونه, ولون عينيه, وشعره, وهواياته, وطوله, ووزنه, وإنجازاته, والرياضة التي يمارسها وما حققه من إنجازات, وأصله العرقي بدءا من الأجداد إلخ. ولعل جون البالغ من العمر16 عاما هو أحد الأطفال الذين تم إنجابهم بهذه الطريقة, وعندما قرر جون أن يترك المدرسة ليلتحق بمدرسة لتعليم المصارعة الحرة, اضطرت أمه أن تخبره أن لديه جينات وراثية ذات خصائص عبقرية متميزة, ونصحته بألا يأخذ صفات وكسل الشخص الذي رباه وعاش معه والذي كان يظن أنه والده كقدوة أو نموذج يقلده في فشله, حيث كان لايستقر في عمل, ولا يستطيع إقامة علاقات اجتماعية ناجحة مع الأشخاص المحيطين به, وكانت صدمة جون هائلة عندما علم أنه وأخته التي تربي معها هما نتاج بنك مني العباقرة كما كانوا يدعون, والكارثة أنهما ليسا من أب واحد, بل كان كل منهما من متبرع مختلف بسائله المنوي, وأن أباهما الذي يعيشان معه طوال حياتهما ليس هو الأب الحقيقي, وعلي الرغم من أن جون مولود لأب ذي مواهب خاصة في الرياضيات إلا أنه كان يفضل التاريخ واللغات, ويجيد نظم الشعر الغنائي, وعزف أغاني الراب ومن مفارقات القدر أن واحدا من بين هؤلاء الخمسة عشر طفلا قد أصيب بنوع من الشلل بعد تطعيمه, وأصبح حتي لا يستطيع أن يتحرك أو يتكلم. وهناك أيضا دورون بليك البالغ من العمر سبعا وعشرين عاما الآن, وهو أحد النماذج التي يمكن أن توضح المميزات والعيوب في هذه التجربة الشاذة بصرف النظر عن محاذيرها الدينية والشرعية التي هي مدانة في كل الأديان والأعراف فهذا الطفل الذي ولد عام1983 كان محور اهتمام وسائل الاعلام المختلفة منذ ولادته, كنموذج لنتاج بنك العبقرية, وكانت أمه سعيدة بذلك, ومنبهرة بتهافت وسائل الاعلام علي مقابلتها, ومعرفة مدي تطور ونمو طفلها, الذي كان يبدي سعادة بالغة بسماع الموسيقي الكلاسيكية, وبدأ في استخدام الكمبيوتر وهو في السنة الثانية من عمره, وفي الحضانة كان يستطيع أن يقرأ قصصا لشكسبير مثل هامليت, وفي السادسة بدأ يتعلم الجبر والحساب, وبقياس معدل الذكاءIQ وهو في السادسة من عمره تبين أنه يصل إلي160, وهو مستوي لا يصل إليه إلا العباقرة, وبعد ان بلغ دورون بليك الثامنة عشرة من عمره تحدث عن تجربته في عدد من البرامج والصحف الأمريكية والبريطانية, وكان حديثه يحمل الكثير من السأم والضجر والألم, موضحا أن قصته لا تحمل دلائل الانتصار العلمي لروبرت جراهام وبنك العبقرية, كما كانوا يحاولون دائما إظهارها وتساءل: هل معني أنني لدي معدل ذكاء عال أنني أفضل من الآخرين؟ هذه بالطبع مغالطة, فالناس يتوقعون مني دائما ان اتصرف وأفكر بطريقة سوبر اكبر من قدراتي, وأنا أكره أن أخذلهم, مما يضعني دائما تحت ضغط عصبي ونفسي كأنني دائما في اختبار أمام الآخرين, وأنا بالفعل لم أحقق في حياتي حتي الآن أي انجازات تذكر, ولو كان لدي معدل ذكاء100 فقط بدلا من160, وهو المعدل العادي لمعظم الناس لحققت ما حققته حتي الآن, وربما أفضل في حالة نشأتي وسط عائلة محبة وأهل ترعاني, ولا تضغط علي أعصابي وتعاملني كفأر تجارب, والشيء الوحيد الذي أعتز بوجوده في شخصي أنني أحب الآخرين من حولي, وأهتم بهم, وأحاول أن أجعلهم أكثر سعادة, فهل هناك جينات لهذه القيم والأخلاقيات؟ وهل تحتاج هذه القيم والأخلاقيات لشخص عبقري أو خارق الذكاء؟ إنني حقا خجول, ولا أحب مواجهة الناس أو الوجود في الأماكن الاجتماعية المزدحمة, ولكني أضطر لذلك, لماذا؟ لأن أمي تكسب المال من وراء ظهوري في وسائل الاعلام المختلفة, ولأنني أشعر دائما بأنني تحت منظار كل من يقابلني, فأنا أتلعثم في الكلام, ولا أحب الكلام مع الأغراب الذين ينتظرون منه قدرات سوبر فوق مقدرتي العادية في كل نواحي حياتي اليومية, لقد دللتني أمي بشكل واضح, فلم تنهني طوال حياتي عن شيء أريد فعله, ولم تلمني علي شيء قط, وكانت تحبني لدرجة الجنون والتملك, فأصبح كل منا هو محور حياة الآخر فقط, وفقدنا الاهتمام بالتعامل مع الآخرين من الأقارب والأصدقاء. ولذلك بدأ دورون يتمرد علي كل من حوله بمن فيهم أمه فهو يريد أن يصبح نفسه فقط, يريد أن يفعل ما يحب أن يفعله, لا ما يريد الآخرون منه فعله, وهنا انقلب دورون علي الرياضيات والعلوم التي تفوق فيهما, وقرر أن يستمر في دراسة الأشياء القريبة من قلبه وهي الموسيقي والدين, وأصبح دورون يكره المنافسة, ولا يحب أن يضع نفسه فيها علي الاطلاق, وكل ما يتمناه دورون الآن هو أن يعود إلي مسقط رأسه في إحدي القري, لكي يعلم الأطفال الأخلاق والمباديء والدين, ويعترف دورون بأنه فعل كل ذلك كنوع من التمرد علي كل من حوله حتي يصنع هو نفسه, دون أن يصنعه الآخرون فقد كانوا دوما يطلقون عليه طفل بنك المني. ومنذ تسعة أعوام ومن خلال المعلومات المتبقية عن بنك نوبل للمني وعن طريق شبكة الانترنت توصلت محطة بي بي سي إلي معرفة الأب الحقيقي لدورون, واقترحت الشبكة عمل لقاء يجمع بين الأب البيولوجي وابنه لأول مرة في حياتهما, بعد أن بلغ الابن عامه الثامن عشر, والذي عاش مع أمه وحيدا طوال هذه السنوات, وتبين أن الأب عالم كمبيوتر يدعي جون ويحمل درجة الدكتوراه, ولايعرف بالطبع أنه أب لهذا الشاب دورون, فهو يملك شهرة وصيتا ذائعا في مجال عمله وتخصصه, وعندما انتقلت الكاميرات إلي دورون لمعرفة رد فعله تجاه هذه المفاجأة, عارضين عليه إحدي الجرائد التي تحمل صورة ابيه, نظر إليها دورون باستخفاف وألقاها بجانبه قائلا: لايمكن ان أسمح لهذا الرجل أن يدخل حياتي بصفته أبا لكونه أعطاني جيناته, والتي لايعرف حتي من التي حملت بها, فالأب والأم هما اللذان يربيان ويرعيان ويسهران ويكبران أبناءهما, لا أريد ان أري هذا الرجل الغريب, فليس له مكان في حياتي, ولم يتم اللقاء علي الاطلاق. وأخيرا نقول: ليرضي كل منا بما أعطاه الله من رزق بكل ما تحمله كلمة الرزق من معان, ولنتذكر دائما قول الحق ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم علي بعض صدق الله العظيم