نحن هنا أمام أطلس من نوع خاص جدا..أطلس يرصد معه وجه القاهرة.. شوارعها.. ميادينها.. بناياتها.. أحوالها المجتمعية.. وكل تلك التغيرات التي طرأت عليها علي مدي قرن كامل من الزمان.. والرصد يأتي عبر الأعمال الأدبية والروايات والقصص والقراءات التي قدمها لنا الروائيون الكبار والشباب علي سواء.. ومن هنا تحديدا تكمن أهمية هذا الأطلس المبتكر والجديد من نوعه! تقدم سامية محرز أستاذ الأدب العربي ومديرة مركز الترجمة بالجامعة الأمريكية خارطة خاصة للقاهرة, هذه العاصمة العريقة التي تضم في شوارعها وأزقتها تاريخا وحكايات وقصصا يقرؤها لنا الأدباء والروائيون بأقلامهم الرفيعة القادرة علي التقاط التفاصيل الصغيرة والكبيرة والتي تترجم تفاصيل ملامح وشخصية العاصمة.. تفاصيل ربما لا يلتفت إليها المؤرخون في رصدهم التاريخي.. لكنها هنا تأتي في الصدارة.. وفي الخارطة يتبدي شعب مصر بأسره, رجالا ونساء, مسلمين وأقباطا ويهودا, جميعهم هنا, في أروقة العاصمة, يموجون بالحركة, ويتنقلون في الشوارع والطرقات, مخلفين وراءهم تاريخ مصر عبر قرن كامل من الزمان.. قرن شهد معه متغيرات سياسية ومجتمعية هائلة مما أكسب الرصد ثراء وخصوصية. تبدو محرز وكأنها تمسك بعدسة مكبرة.. وتضع سطحها الزجاجي الأملس الحساس فوق وجه القاهرة, فتظهر ملامح العاصمة بوضوح وجلاء, ويتبدي الوجه المتعب بكل ما يحمل من تجاعيد وخطوط وعلامات الزمن. تشهد البنايات والأحياء والشوارع والأمكنة علي الأحداث. تؤرخ معها للأفراح والأحزان.. تروي تاريخ مصر.. ومعها نقرأ تغيرات وتطورات طرأت علي قاهرة المعز خلال القرن العشرين. وعدسة محرز هنا هي النصوص الأدبية المختلفة التي تناولت أحوال القاهرة.. فنحن نقرأ معها النص الأدبي, ونستعيد كلماته, وعباراته, ونتذكر أحداثه ومعه نقرأ التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعمراني الذي شهدته القاهرة خلال تلك الحقبة. الرصد التاريخي يأتي إذن جنبا الي جنب مع الرصد الأدبي.. والقراءة المجتمعية ترافق القراءة الروائية مما يكسبها عذوبة خاصة.. فالنص الأدبي له دوما سحره وبريقه.. يشد القارئ بسهولة نحو بحوره وشطآنه.. وهذا المزيج الخاص الذي جاءت به الكاتبة يجعلنا نعيش في رحاب الرواية والتاريخ والمجتمع.. ونسعد بصحبة كبار الروائيين ودرة أعمالهم, ونقترب كذلك من أقلام شابة موهوبة استطاعت أن تثبت نفسها في غمار الساحة الأدبية. وتجدر الإشارة أيضا الي أن الكاتبة تضع يديها عبر هذا الرصد الخاص الذي قامت به علي أنماط وأشكال أدبية مختلفة تناولت في سطورها( القاهرة) كموضوع لها. فالأداة التي استخدمتها( النصوص الأدبية) بمثابة رحلة بانورامية في رحاب الأدب والرواية يتمتع بها القارئ العادي والمتخصص معا وينعم كذلك برفقتها المعماريون والمؤرخون وخبراء الاجتماع. ينقسم الكتاب الي أربعة أجزاء, يرصد الجزء الأول معه خارطة القاهرة حيث يعرض لنمو المدينة علي صعيد العمران والأحياء والبنايات, ويبدو قلب القاهرة وكأنه ينفض عن وجهه غبار الزمان, يعيش القاريء هنا أجواء القاهرة القديمة بكل ما تحمل من عبق خاص.. كما يعيش أيضا في أرجاء القاهرة الحديثة الصاخبة قاهرة المولات والعمارات الشاهقة والأحياء الأنيقة.. قاهرة الزحام. مع( زقاق المدق وخان الخليلي) لنجيب محفوظ و(حمام الملاطيلي) ل إسماعيل ولي الدين, و(قنديل أم هاشم) ل يحيي حقي و(هليوبوليس) ل مي التلمساني وآخرين يتعرف القارئ علي خارطة القاهرة ومعالمها. ويرصد الجزء الثاني في سطوره الأماكن العامة والتي تعد بمثابة علامات مميزة للمدن.. المقاهي.. البارات.. الفنادق.. الأبنية. النوادي.. الحمامات الشعبية, تشهد علي نمو العاصمة من ناحية, وتكسب المدينة شخصية خاصة من ناحية أخري, فضلا عن بصمتها التاريخية بالرغم من التعديات التي تنال منها, إلا أن هذه الأماكن تحمل معها حكايات وقصص الوطن. مع يوسف السباعي ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ومحمود الورداني وصنع الله إبراهيم وأحمد العيادي نزور هذه الأماكن العامة ونعيش في أرجائها. أما الجزء الثالث فيعرض معه للأماكن الخاصة.. ندخل هنا داخل أروقة القصور والبيوت.. نعيش بين الجدران والحوائط.. نجلس في الغرف ونتعرف علي تفاصيل الحياة اليومية للأثرياء والفقراء معا.. يختلف الخارج عن الداخل في كثير من الأحيان.. وتعكس البيوت القديمة طبيعة الشخصية المصرية.. وهناك كذلك العمارة الداخلية التي اشتهرت بها بنايات القاهرة القديمة( الحوش, المشربية) والتي تترجم ثقافات وسلوكيات وعادات شرقية وإسلامية. فالعمارة هنا تعكس طبائع الشعوب وثقافاتها, هناك أعمال أدبية عديدة تعرض لهذا الأمر نذكر منها:( ثلاثية) نجيب محفوظ,( نحن لا نزرع الشوك) يوسف السباعي,( نقطة نور) بهاء طاهر,( عمارة يعقوبيان) علاء الأسواني,( في قصر محمد علي) حسان حسان وغيرها.. وأخيرا يرصد الجزء الرابع حركة العاصمة.. هذه العاصمة التي لا تهدأ أبدا.. لا تكاد تنام ليلا ولا نهارا.. هي في حالة حراك دائم.. ومع الحراك يحدث التطور والتغيير. يعرض هنا الأدب لهذا الحراك.. ويبدو كأنه مرصاد حساس, يقبض بين دفتيه علي تلك الحركة وذلك الصخب الذي تموج به القاهرة.. صخب يعكس معه سلوكيات وممارسات والأهم من ذلك كله شخصية المواطن المصري التي تتبدل وتتغير وتختلف ملامحها عبر الأزمنة.. نذكر هنا بعض الأعمال التي عكست معها حركة القاهرة:( أنا حرة) إحسان عبدالقدوس,( أرانب) سلوي بكر,( نون) سحر الموجي,( تاكسي) خالد الخميسي,( أن تكون عباس العبد) أحمد العيادي.. صدر الكتاب عن نشر الجامعة الأمريكية.