لعل السؤال: نحن المصريين.. من نكون؟ وتظهر أهمية الإجابة علي السؤال بالنظر الي أصوات مغرضة أو جاهلة تهدد الوحدة الوطنية للمصريين, تخدم بسوء قصد أو بحسن نية. محاولات خارجية تستهدف تفكيك الأمة المصرية. ومن الآخر, أقول موجزا ما خلصت اليه البحوث: إن المصريين في عصر الأسرات هم ببساطة نسل وسلالة المصريين في عصور ما قبل الأسرات. وتقودنا البحوث الرصينة. كما نقرأها في العرض الموضوعي النقدي في المؤلف الموسوعي شخصية مصر, الي أننا لا نبعد كثيرا عن الحقيقة إذا تصورنا أن المجموع الكلي الشامل لجميع المؤثرات الخارجية الأجنبية الوافدة والداخلة علي مصر منذ بداية عصر الأسرات حتي الآن لم تتعد نحو10% من مجموع سكان مصر, في أي وقت خلال هذه المدة. وقد كان السؤال والجواب المطروحان بين أهم ما تصدي له صاحب شخصية مصر, جمال حمدان, بتحليل معمق غطي أهم البحوث العلمية, التي سعت الي التعريف بأصل وعرق ونسب المصريين وتحديد متي ظهروا كشعب, وتعمقت في تعيين أثر المؤثرات الوافدة علي تكوين الأمة المصرية العريقة. والواقع أن ما كشفت عنه البحوث في أصل الإنسان حتي الآن يثبت أن مصر ليست مهد الجنس البشري. وهذه الحقيقة يترتب عليها منطقيا السؤال عن إلي متي ظلت العناصر الوافدة تظهر في مصر, ومتي أصبحت متوطنة وأصيلة؟ فلئن صح أن يقال عن أوائل المعمرين الذين دخلوا مصر البكر إنهم وافدون, فليس يصح علي الإطلاق أن يقال هذا عن قدماء المصريين منذ عصر الأسرات الفرعونية. ويقول كون في كتابه' أعراق أوروبا'' إن مصر القديمة تظل أبرز مثال معروف في التاريخ حتي الآن لمنطقة معزولة طبيعيا أتيح فيها للأنواع الجنسية المحلية الأصيلة أن تمضي في طريقها آلاف السنين دون أن تتأثر إطلاقا باتصالات أجنبية'. ويقول برودريك في كتابه' شجرة التاريخ البشري':'... من الواضح طوال الستة آلاف سنة الأخيرة أو يزيد أنه لم يكن هناك أي تغير ملحوظ في مظهر جمهرة المصريين' منذ الحضارات ما قبل الفرعونية وحتي الآن! وأما كيث في كتابه' نظرية جديدة عن التطور البشري' فيعبر عن هذه الاستمرارية الجنسية المصرية, فيقول:' إن الفلاحين الذين يؤلفون جسم الأمة( المصرية) اليوم هم النسل المباشر لفلاحي سنة3300 ق. م. ولقد ترك لنا التحنيط عند قدماء المصريين متحفا أنثروبولوجيا كاملا لمصر الفرعونية وعينة إحصائية لا مثيل لها عددا واطرادا وتمثيلا. كما ترك لنا المصريون القدماء صورة كاملة لنمطهم الجسمي الطبيعي لا نظير لثرائها عند أي شعب آخر, هي تلك الآلاف من الرسوم والنقوش وكذلك التماثيل, بحيث نتعرف عليهم جنسيا كما نعرف المصريين المحدثين. وترسم لنا روائع أعمال الدولة القديمة الفنية صورة المصري في عصر الأسرات, وترمز اليه ببراعة تماثيل' الكاتب الجالس القرفصاء' و'شيخ البلد, وهو نمط يمثل جزءا كبيرا من سكان مصر في عصر الدولة القديمة, علي الأقل في مصر العليا, وهذا هو بعينه نمط المصريين المحدثين اليوم بالفعل! وحقا كانت' مصر وطن من لا وطن له', كما سجلت نعمات فؤاد في كتابها' أعيدوا كتابة التاريخ', بمعني أن مصر كانت قبلة اللاجئين وبلدا مضيافا وشعبا لا يعرف كراهية الأجانب لمجرد كونهم أجانب. والأمر كما يوضح جمال حمدان أن موضع مصر غني, لكنه محمي معزول بدرجة لعبت غلالة الصحراء حوله دور' ماصة الصدمات أو المصفي' الذي غربل الموجات الداخلة وكسر حدتها, وأخضعها للون قاس ولكنه صحي من الانتخاب الطبيعي. وقد حال موضع مصر دون أن تتعرض للمصير الذي تعرضت له بلاد أخري كثيرة من اجتياح الموجات البشرية الكاسحة التي تزيغ السكان الأصليين أو تخلطهم تخليطا. لكن مصر, بحكم موقعها المتوسط وموضعها الغني, كانت إقليم جذب لا طرد, ومن هنا تعرضت لطوفان الموجات البشرية المختلفة سواء الهجرات الاستيطانية أو الغزوات الحربية أو التسلل السلمي. ووحدة أصل المسلمين والأقباط ليست علميا إلا بديهية أنثروبولجية, لأن تكوين مصر الجنسي سابق علي تكوينها الديني. فالأساس القاعدي لأنثروبولوجية مصر أسبق من المسيحية بأكثر من3200 سنة, ومن الإسلام بأكثر من4000 سنة, علي أقل تقدير. ويضعها حزين بوضوح لأن:' الطابع الجنسي العام للمصريين قد وجد واتخذ صورته المميزة قبل أن يكون هناك أقباط ومسلمون'. ويخلص جمال حمدان, المنظر المصري للقومية العربية, الي أن مصر فرعونية بالجد, عربية بالأب, وكل من الجد والأب من أصل جد أعلي واحد مشترك! غير أن العرب هنا, وقد غيروا ثقافة مصر ليسوا' الأب البيولوجي' حيث كانوا بالضرورة أقلية عددية جدا بالقياس إلي المصريين. وطول تاريخنا العربي لا يعدو نحو ربع تاريخنا كله! ويسجل حسين فوزي في' سندباد مصري' أن المصريين قد جاءوا من الشمال والجنوب, وجاءوا من الشرق والغرب, وهم خليط سامي حامي, يشاركون في أصولهم شعوب جنوب البحر الأبيض, وشعوب السودان والحبشة, وشعوب غربي آسيا. ويتألف, من كل تلك الأصول, ذلك الجنس الواحد الباقي. والمصري, الذي انعزل في واديه الخصب وسط الصحراء والهضاب والجبال والبحار, احتفظ بطابعه الإتنوغرافي, غير مشوب في أغلبه, إلي يومنا هذا. والشعوب التي اعتدت علي مصر, أو استقرت فيها وعاشرت أهلها واختلطت بهم, لم تكن أكثر من قطرات ماء في بحر خضم من بشرية مصرية أصيلة. ويقول كيث: إن المصريين ليسوا فقط أمة, أقدم أمة سياسية في التاريخ, ولكنهم أيضا جنس بكل معني الكلمة. ولكن ليس هناك شيء اسمه النقاوة الجنسية عموما. بل إننا ليمكننا أن نذهب إلي حد القول بأنه ما من شعب, مهما كان منعزلا أو معزولا, إلا وهو مختلط بدرجة أو بأخري وإذا كان النمط الجنسي المصري قد امتاز بالثبات لا شك, فذلك بالمعني العريض ولا يرادف الجمود المطلق. ومصر القديمة والمعاصرة, جنسيا وغير جنسي, جسم متجانس أساسا, دون أن يرادف هذا النقاوة الجنسية. وقد تحولت مصر إلي بوتقة انصهرت كل عناصرها ومكوناتها الرئيسية بالاختلاط والذوبان والامتصاص, فاندمج الكل في مزيد من التجانس الجنسي والحضاري, الطبيعي والثقافي, الديني واللغوي. والسبب الأساسي هو التقارب الجذري بين معظم العناصر التي دخلت مصر. وإذا كان لون البشرة يبدو اليوم متدرجا من الأفتح إلي الأغمق كلما اتجهنا جنوبا, فإن هذا إنما بفعل تدرج المناخ لا يفعل تضاغط الموجات. ولعله من مصادر حيوية مصر أنها لم تعرف بصفة عامة الحاجز اللوني أو الحضاري القومي ولا التمييز العنصري. وبهذا, كما يقول جمال حمدان, كانت مصر تتجدد بمقدار بواسطة الهجرات والعناصر الداخلة, وتكتسب عروقها دماء جديدة مهما كانت كميتها ضئيلة محدودة, وتلك ظاهرة صحية ومفيدة ومنشطة للبنية البشرية للسكان.ولهذا وغيره لعل مصر من البلاد المعدودة التي تمثل خير تمثيل المقولة الأساسية في الجغرافيا السياسية وهي: إن المواطنين في التحليل الأخير هم كل أولئك الذين يظلهم الوطن واندمجوا فيه وأقاموا به بصفة دائمة. وللحديث بقية.