قرأت الأسبوع الماضي تصريحات لعدد من رؤساء شركات تكنولوجيا المعلومات الوطنية الكبري, يشكون فيها من تأثر شركاتهم بالأزمة الاقتصادية العالمية وبأن شركاتهم علي وشك الإفلاس ويصرخون طالبين عون الحكومة ويحثون وزارة الاتصالات علي سرعة طرح مشروعات للتنمية المعلوماتية بملايين الجنيهات تعمل فيها شركاتهم حتي لا تسرح موظفيها وتخرج من السوق, والحقيقة أدهشتني هذه التصريحات والمطالبات التي طالما سمعتها من هذه الشركات وقياداتها طوال السنوات الثلاث عشر الماضية وتحديدا منذ أن عقد في17 فبراير1997 اجتماع بمركز إعداد القادة بناء علي دعوة من الدكتور عاطف عبيد والدكتور يوسف بطرس غالي والسيد جمال مبارك, وحضره قيادات وخبراء الصناعة ورؤساء شركات كان بينهم من يصرخ الآن خائفا من الإفلاس, وانتهي الاجتماع إلي مذكرة رفعت للقيادة السياسية وتضمنت أشياء عديدة بينها هذا المعني, وبعدها أنشئت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وضخت الحكومة مئات الملايين من الجنيهات في مشروعات لتكنولوجيا المعلومات, والآن وبعد هذه السنوات الطويلة والملايين العديدة نسمع مجددا النغمة نفسها وكأن كل ما جري لم يجد مع الشركات نفعا ولم يحقق لها نضجا, وأنها لا تزال تصر علي الرضاعة من الحكومة بصورة أو بأخري.. فهل تجري هذه الشركات في مكانها أم ماذا يحدث بالضبط؟ حقيقة الأمر أن شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الوطنية ليست واحدة متشابهة, بل متنوعة ويمكن تقسيمها طبقا لمعايير عدة, منها علي سبيل المثال لا الحصر التخصص كالاتصالات والبرمجيات والمحتوي والإنترنت والإلكترونيات وغيرها, ونموذج العمل وهل يقوم علي تقديم الخدمات وتنفيذ المشروعات المتكاملة أم الإبداع والإنتاج وتطوير المنتجات أم العمل كقنوات توزيع لآخرين, ثم مجال الحركة والتوجه ما بين السوق المحلية والإقليمية والعالمية. وحينما ندقق النظر في طبيعة الشركات التي تصرخ ذعرا من تعرضها للإفلاس نجد أنها مجموعة الشركات التي اختارت الرؤية الكلاسيكية ونموذج العمل التقليدي الذي ساد بالبلاد منذ أربعينيات القرن الماضي, وقام علي أن تكون الشركة معبرا تدلف المنتجات والخدمات ونظم المعلومات الأجنبية والعالمية من خلاله إلي الجهات المستفيدة أو الزبائن النهائيين لها, وفي غضون ذلك تبني خبرات متراكمة في التعامل مع النظم والمنتجات, من حيث توفيرها وتثبيتها وتشغيلها وصيانتها والتدريب علي استخدامها, بعبارة أخري يقوم هذا النموذج علي العمل كمعبر لإبداع الآخرين, ثم التخديم علي هذا الإبداع بمهارات تجعله يجد طريقه بسلاسة إلي البيئة المحلية, ومع استمرار تراكم الخبرة والمعرفة تتحول هذه الشركات إلي كيانات قادرة علي تنفيذ مشروعات متكاملة في مجال التنمية المعلوماتية لصالح الجهات الراغبة في إحداث تطوير إداري وإنتاجي ومؤسسي اعتمادا علي المعلوماتية وأفرعها وأدواتها المختلفة التي أبدعها آخرون وأجانب, وذلك في شتي القطاعات الرأسية بالاقتصاد الوطني من بنوك وتأمين وتعليم وزراعة وصحة وجهاز حكومي وصناعة وبترول وغيرها. وفي هذا النموذج يكاد يكون الإبداع والقيمة المضافة منحصرا في الإبداع في التطبيق الذي يشمل عمليات التهيئة والإعداد التي تسهل انسياب التكنولوجيا داخل بيئات العمل بالجهات المستفيدة, كما يشمل تكاملية الخطة أو المشروع الذي يمكن من خلاله إحداث تنمية مؤسسية وإنتاجية استنادا إلي تكنولوجيا المعلومات. وعلاقة شركات تكنولوجيا المعلومات عموما بالإنفاق الحكومي والمجتمعي علي التكنولوجيا قائمة وحيوية بلا شك, ولا يمكن لأي متابع أن ينكر التأثير الإيجابي والسلبي الذي يحققه هذا الإنفاق علي أوضاع الشركات بأنواعها المختلفة, لكن السؤال هو: إذا ارتفع أو انخفض الإنفاق الحكومي علي تكنولوجيا المعلومات.. أي نوع من الشركات سيتأثر أكثر إيجابا أو سلبا؟ الإجابة أن الحكومة وهيئاتها وجهازها الإداري في أي مكان هي الزبون الأول- وربما الوحيد في كثير من الأحيان- للحلول والمشروعات المتكاملة والضخمة في التنمية المعلوماتية, التي هي في الوقت نفسه المجال الأساسي وربما الوحيد للعديد من شركات تكنولوجيا المعلومات التي تعمل وفق نموذج العمل المشار إليه, ولذلك فإنه في حالة ارتفاع الإنفاق الحكومي علي تكنولوجيا المعلومات تصبح هذه النوعية من الشركات الوطنية ومن ورائها الشركات الأجنبية والعالمية المرتبطة بها أول المستفيدين وأكثر المراكمين للثروة وأشد المتنعمين بالرفاهة, أما إذا انخفض الإنفاق الحكومي أو تقلص تصبح أول من يصرخ, وأكثر من يصاب بالذعر, وأسرع من يرفع شعار الإفلاس ويفتح فاه لاهثا وراء الحكومة. هذه حقائق وبديهيات بسيطة يعلمها كل من يعمل في إنشاء وإدارة وتشغيل شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات, وعالميا أدركت العديد من الشركات التي تلتزم بنموذج العمل المشار إليه هذه الحقائق, ومن ثم عملت علي عدم ربط عملياتها وخططها بالإنفاق الحكومي لأوطانها ربطا كليا, بل حاولت توسيع عملياتها وعلاقاتها خارج القطاع الحكومي وخارج حدود وطنها, كما توخت أقصي درجات الالتزام والدقة والنزاهة والكفاءة في العمل, لتحقيق نتائج تقنع صناع القرار داخل الحكومة وخارجها من القطاعات العامة والخاصة الأخري بأن العائد علي مشروعات تكنولوجيا المعلومات يفوق كثيرا الإنفاق عليها, لتضمن فرصا للعمل وللحصول علي عوائد تجنبها الوقوع في مأزق الصراخ والذعر من الإفلاس, ولو لحين تحسن الأوضاع وعودة الإنفاق الحكومي لمستوياته المقبولة, وفي هذا الصدد تقدم المئات من الشركات الهندية التي اخترق بعضها سوقنا المحلية نموذجا جيدا للغاية. وهنا نتساءل: هل فعلت الشركات الوطنية ذلك؟ إن غضبنا الجارف من الحكومة وعدم رضائنا عن أدائها الذي أورد البلاد ما نحن فيه من محن, لا ينبغي أن يجعلنا نغض الطرف عن مسئولية هذه الشركات عن المأزق الذي تقول إنها تعيشه, فهذه الشركات: 1 اختارت من البداية نموذج عمل تعلم تمام العلم أنه شديد الارتباط بالإنفاق الحكومي علي تكنولوجيا المعلومات, وكان عليها أن تدرك ومبكرا جدا أن لهذا الاختيار مزاياه ومخاطره, وتتحسب لهذه المخاطر كما فعلت الكثير من الشركات المناظرة لها إقليميا وعالميا, وتهتم بمراكمة خبرات ومعارف تشكل في حد ذاتها ثروة فكرية معرفية قابلة للاستثمار, وتسعي لتوسيع قاعدة عملائها خارج القطاع الحكومي وخارج مصر, وهذا لم يحدث إلا في حالات نادرة أو قليلة. 2 عمل الكثير من هذه الشركات في معظم الأحيان بفكر التجار الذين يوزعون منتجا أو يبيعون نظاما, وليس بفكر البنائين الذين يغيرون بيئة العمل ويعيدون هندسة العمليات ويطورون هياكل الإنتاج, بعبارة أخري كانت بعض الشركات تمارس تجارة ولا تنفذ مشروعات تنمية, وهو فكر يضع نصب عينيه التدوير السريع للمال, لا الحرص علي التمهل في غرس الخبرة ورعاية التغيير, وبالتالي تعددت صور الأداء المتدني الكفاءة عند التقدم للمشروعات, والتكالب لا المنافسة علي الفوز بها بطريقة من يقضم الكعكة أولا, ثم التسرع و الكلفتة في التنفيذ والتشغيل, والاختفاء عند الاحتياج بعد الانتهاء من المشروع أو المهمة, ونتيجة لذلك تراكمت خبرات سلبية لدي الطرف المستفيد, ليس فقط تجاه بعض ممارسات هذه الشركات ولكن تجاه تكنولوجيا المعلومات نفسها كفكرة, مما أثر كثيرا علي قرارات الإنفاق علي التكنولوجيا عموما وليس فقط وقت الأزمات. 3 كانت هذه الشركات طوال السنوات الماضية من القوي الضاغطة لتنفيذ برامج تنمية الطلب المحلي علي تكنولوجيا المعلومات التي ضخت فيها الحكومة ملايين الجنيهات, علي اعتبار أن تنمية الطلب سينعشها ويضمن لها فرصا للنمو المستقل, وهي فكرة سليمة نظريا ولا غبار عليها, لكنها عمليا أخفقت في الكثير من أهدافها, ففكر التجار الذي ساد هذه الشركات كان من الأسباب التي حولت تنمية للطلب المحلي إلي طلب علي المنتجات والنظم المستوردة التي لعبت فيها الشركات الباكية المذعورة الآن دور البائع أو الموزع والمشغل والقائم بالصيانة وكسبت من ورائها الكثير, لكن هذه الشركات في المقابل لم تكترث بالعمل علي دفع برامج تنمية الطلب المحلي باتجاه تطوير نظم وحلول وخبرات محلية, ولم تستثمرها في الوصول بنفسها إلي مرحلة من النضج والاستقلال والعمل بحيوية وقوة خارج النطاق الحكومي, بل علي العكس استمرأتها وتلذذت بها, فعمقت اعتمادها عليها حتي أوجدت لديها حالة من الاتكالية تحولت بمرور الوقت إلي نوع من الرضاعة المزمنة التي أصبحت الشركات تنظر إليها باعتبارها حق مكتسب يتعين الحصول عليه باستمرار, وما أن تقل الرضعة حتي ترفع الشركات في وجه الحكومة فزاعة البطالة وتسريح العمالة. 4 لم تحرص هذه الشركات علي تنمية كيانات استشارية جديرة بثقة القطاع الحكومي وهيئاته ووزاراته أو القطاعات الأخري بالدولة, وفي الوقت نفسه أقدمت بعض الشركات علي ممارسات سيئة ومتدنية الكفاءة وهي تنفذ مشروعات وبرامج داخل الوزارات, الأمر الذي كان من بين الأسباب التي دفعت العديد من الوزارات والهيئات الحكومية لإنشاء شركات لتكنولوجيا المعلومات تابعة للوزارات, تقوم علي نفس نموذج العمل الذي تقوم عليه هذه الشركات ولكن في نطاق تخصصها, وهي خطوة يراها البعض اليوم نوعا من سد المنافذ أمام شركاتهم المستقلة ومنازعة لها في فرص الحصول علي المشروعات الحكومية, لكنهم يتناسون أن أداء شركاتهم كان من أسباب إقدام الوزارات علي هذه الخطوة. خلاصة القول أننا أمام شركات لم تضعها الأزمة فقط في مواجهة الإفلاس, بل وضعها أداؤها أيضا موضع من أدمن الرضاعة السهلة ولم يسع لتأمين مصدر غذاء بديل, يتحمل هو مشاق جمعه وتجهيزه ومضغة ثم الضغط لبلعه, وبالتأكيد فإن من يستكين للرضاعة ليس من حقه أن يشكو الجوع إذا ما جف الضرع.