تعد العلاقات المصرية الليبية أحد أهم الملفات الإستراتيجية لدي كل من الجانبين المصري والليبي, وذلك بحكم الكثير من الروابط التاريخية والمصالح المشتركة, وفي هذا السياق يكتسب ملف العمالة المصرية في ليبيا أهمية خاصة لأسباب عديدة. وبالرغم من عدم توافر حصر دقيق, فإن التقديرات تشير إلي وجود ما يتراوح بين مليون إلي مليونين من المصريين يعملون هناك, وهو عدد إذا أخذنا بحده الأعلي فانه يقترب من ثلث التعداد السكاني لليبيا والذي يقدر ب6.5 مليون نسمة, ومن ناحية أخري يمكن ملاحظة أن سوق العمل في كل من مصر وليبيا يعتمد علي هذه العمالة بطرق مختلفة, فسوق العمل المصري لا يقوي علي تحمل عودة ما يقرب من مليوني عامل لكي ينضموا لقوائم البطالة في مصر, وبنفس المنطق من غير الممكن أن يتخلي سوق العمل الليبي عن هذا العدد من العمالة التي تمثل تقريبا70% من سوق العمل في ليبيا, دون أن يؤدي ذلك إلي إلحاق ضرر بالغ بمختلف الأنشطة الاقتصادية, وهو ما يعني أن العمالة المصرية في ليبيا تمثل بعدا إستراتيجيا للاقتصادين القوميين المصري والليبي علي السواء. وبالرغم من أهمية ملف العمالة المصرية في ليبيا, فإن هذه العمالة تواجه العديد من الصعوبات والتعقيدات التي تؤثر سلبا علي أوضاعها, ومن ثم علي المصالح المصرية والليبية المرتبطة بهذا الملف. وتتلخص المشكلات التي تواجه العمالة المصرية في ليبيا في ثلاث قضايا رئيسية, يأتي علي رأسها عدم وجود درجة كافية من التنظيم لأحوال تلك العمالة, بالاضافة إلي التعقيدات البيروقراطية التي تواجهها العمالة المصرية من الجانبين المصري والليبي في التعامل مع الضوابط اللازمة لتوفيق وتقنين أوضاعها, وثالثا التعامل السياسي مع ملف العمالة من الجانبين المصري والليبي علي السواء.تعاني ليبيا من عدم وجود تنظيم كاف لسوق العمالة الأجنبية, حيث يعتمد الاقتصاد الليبي بشكل رئيسي علي العمالة الأجنبية وبالرغم من ذلك تشكل العمالة المخالفة وغير الشرعية الغالبية العظمي من هذه العمالة, التي تفد من بلدان عدة اهمها مصر والسودان وتركيا وتشاد والنيجر وتونس والمغرب وسوريا, إلا أن حجم العمالة المصرية في ليبيا وحساسية أوضاعها في سياق العلاقة بين البلدين هو ما يضخم من مشكلاتها, فهناك أزمة معلوماتية فيما يتعلق بأعداد العمالة المصرية في ليبيا, حيث لا يوجد اي تعداد رسمي لدي أي جهه, وعلي سبيل المثال فإن البيانات الخاصة باجمالي تعاقدات العمالة المصرية بالخارج والواردة من الادارة العامة لتصاريح العمل بوزارة الداخلية في مارس2010 لا تتضمن أية معلومات عن تعاقدات العمالة المصرية في ليبيا, وربما يعود ذلك إلي أن تلك الاحصاءات يتم تجميع بياناتها من واقع التعاقدات الواردة للادارة العامة لتصاريح العمل, ولكن أغلب العمالة المصرية في ليبيا تعمل دون عقود رسمية. وبالرغم من محاولات وزارة القوي العاملة المصرية في الآونه الأخيرة لتقنين أوضاع هذه العمالة, فإن العمالة التي تم بالفعل تقنين اوضاعها تمثل نسبة لا تذكر من إجمالي العمالة المصرية هناك, الامر الذي يقودنا إلي جانب ثان من جوانب هذه المشكلة, فنسبة كبيرة من العمالة المصرية التي تعمل دون عقود في ليبيا هي عمالة فنية متخصصة تعمل في مجالات موسمية أو مؤقتة مثل البناء والزراعة والصيد البحري وأعمال الطرق. وهي أيضا عمالة تذهب إلي ليبيا دون طلب عليها, حيث تبادر بعرض نفسها في سوق العمل مما يخلق فجوة بين العرض والطلب, لصالح زيادة العرض علي الطلب بشكل ملحوظ, الأمر الذي يشعر أصحاب الأعمال بعدم الحاجة الي وجود عقود وإطار تنظيمي خاصة ان هناك دائما عمالة علي استعداد للعمل دون عقود نظرا للمنافسة الشديدة. في الوقت نفسه, ترتبط مشكلة العقود بعدم وعي أغلب فئات العمالة المصرية في ليبيا بفائدة العقود وأهمية تنظيم اوضاعهم. في هذا الإطار, تجدر الإشارة إلي وجود بعض المفاهيم والمدركات الشائعة عن عمل المصريين في ليبيا دون قيد أو شرط, والناتجة عن سلبيات اتفاق الحريات الأربع بين مصر وليبيا( التملك, الاقامة, العمل, التنقل) حيث يحتاج هذا الاتفاق إلي إدخال بعض الضوابط علي بنوده لحفظ حقوق الجانبين وتطوير مصالحهم المشتركة مثل مكافحة ظاهرة الهجرة غير الشرعية علي سبيل المثال. وبالرغم من محاولات الجهات المعنية في كل من ليبيا ومصر العمل علي تقنين أوضاع العمالة المصرية في ليبيا, واتفاق الرئيسين مبارك والقذافي في فبراير الماضي في سرت علي تحديد مهلة ستة اشهر لحصر العمالة المصرية في ليبيا وبحث تقنين اوضاعها, إلا ان الجهود المبذولة حتي الآن في هذا الشأن لا تزال في مراحلها الأولية ويشوبها الكثير من الإرتباكات البيروقراطية. وبرغم المجهودات المبذولة من الجانبين المصري والليبي لتقنين وتوفيق أوضاع العمالة المصرية بليبيا عبر الكثير من الاتفاقات والبروتوكولات والإجراءات التي من شأنها توفيق اوضاع العمالة المصرية في الجماهيرية الليبية, فإن أغلب هذة المحاولات ينتهي دون أن يكتمل, حيث تنشط مثل هذه المحاولات كرد فعل للقاءات أو الاتصالات المباشرة بين القائدين مبارك والقذافي وما يصدر عنهما من تعليمات رئاسية للجهات المختصة للعمل علي توفيق الاوضاع, غير أن موجة النشاط الحكومي( المصري والليبي علي السواء) التي تتولد عن ذلك سرعان ما تهدأ حتي تصدر تعليمات رئاسية اخري. وقد أعلنت السلطات الليبية في نهاية شهر مايو الماضي عن منح العمالة الأجنبية المخالفة في اراضيها مهلة60 يوما من بداية يونيو حتي نهاية يوليو الماضي لتوفيق أوضاعها والحصول علي عقود عمل وتوثيقها واستخراج إقامة سنوية بموجب العقود الموثقة مقابل500 دينار ليبي( ما يعادل2500 جنيه مصري), وهي خطوة مهمة وضرورية وتعد حقا أصيلا لليبيا, ولكن فيما يتعلق بأثر هذا القرار علي العمالة المصرية, تجدر الإشارة إلي أن هناك مشكلة تتعلق بإبرام عقود عمل للغالبية العظمي من العمالة المصرية في ظل تحمل العامل مسئولية الحصول علي عقد دون إلزام أصحاب العمل بإبرام تعاقدات مع العاملين لديهم, وهو ما يهدد العمالة الفنية والموسمية, هذا بالإضافة إلي أن هذا القرار ليس الأول من نوعه, بل سبقته قرارات مشابهة في أعوام2006 و2007 و2009 حيث ألغيت هذه القرارات بعد فترة أو تم استثناء العمالة المصرية من القرارات التي تخص العمالة الأجنبية في ليبيا ككل نتيجة لأسباب سياسية, وهو ما حدث عقب الزيارة الأخيرة للوزيرة عائشة عبد الهادي لليبيا, وقد أثمرت هذه الزيارة عن تقديم تيسيرات وتسهيلات عديدة للعمالة المصرية, وهو ما يعد تعاونا إيجابيا بين السلطات المصرية والليبية ولكن يبقي هذا التعاون بعيدا عن الإطار القانوني المطلوب ومحاصرا في حيز التصريحات والمباحثات السياسية. ويعد التعامل السياسي مع ملف العمالة احد معوقات التعامل الموضوعي مع المشكلة. فمن جهة, تستخدم ليبيا ملف العمالة المصرية لديها كورقة للضغط السياسي علي مصر عندما تتوتر العلاقات المصرية الليبية لأي سبب, ولعل احد الامثلة المهمة هنا هو ما حدث في عام2004 عندما رفضت السلطات الليبية دخول700 مصري دون تأشيرة( وهو ما نفته الخارجية الليبية وأكدته الشكاوي المقدمة للخارجية المصرية) عقب التوتر الذي نشأ بعد تقديم السفارة الليبية بالقاهرة شكاوي لكل من النائب العام ونقابة الصحفيين متهمة14 صحفيا مصريا بسب وقذف الزعيم الليبي معمر القذافي بعد اعلانه قرار ليبيا بالتخلي عن أسلحة الدمار الشامل. ومن جهة أخري, تتدخل مصر من خلال القيادة السياسية لاحتواء أي أزمة تتعلق بالعمالة المصرية في ليبيا وهو ما حدث في عام2009 عندما أقرت السلطات الليبية تسهيلات واستثناءات للعمالة المصرية بعد انعقاد الدورة الاستثنائية للجنة المصرية الليبية المشتركة. وقد يكون التدخل السياسي مطلوبا في ملف بهذه الحساسية, غير أنه من الضروري أيضا ألا ينصرف لتسكين الأزمات فقط بقدر ما يسعي إلي وضع حلول موضوعية لها. غير أنه من الحق أن نقول انه بالرغم من أن العمالة المصرية في ليبيا محاصرة بين ضعف الإجراءات التنظيمية وبين الإدارة السياسية للملف, فإن ليبيا مقبلة علي مرحلة تنموية هامة من الممكن أن تلعب العمالة المصرية دورا محوريا فيها. فقد أشار د.سيف الإسلام القذافي نجل الزعيم معمر القذافي في عدة لقاءات إلي أن ليبيا مقبلة علي مرحلة إعادة ترتيب للدولة, وأن هناك مشروعات تجديد وبناء البنية التحتية والأساسية بما يقرب من200 مليار دولار, وأن الاعتماد علي العمالة الفنية المصرية في تنفيذ هذه المشروعات سيكون كبيرا. كما أشار سيف الاسلام إلي أن العمالة المصرية في ليبيا تمثل حالة خاصة ينبغي استثمارها لمصلحة المصريين العاملين بليبيا. هذه التطورات توضح أهمية العمل علي تقنين أوضاع العمالة المصرية حتي يتم ضبط الطلب عليها ومن ثم رفع كلفتها, وفي الوقت نفسه يمكن استخدام العلاقة السياسية المميزة بين البلدين لوضع إطار تنظيمي فاعل لتوفيق أوضاع العمالة المصرية في ليبيا بما يساعد علي دراسة أوضاعها والعمل علي حل مشكلاتها ويخدم المصالح الاقتصادية المشتركة.