هذا الحديث دعت إليه الأهمية المتزايدة التي تلقاها هذه القضايا الثلاث وطنيا ودوليا, كما أن ما بينها من تقارب وتداخل كثيرا ما يؤدي الي الخلط بينها مما يقتضي تناولها تباعا ليس بهدف الفصل, انما من أجل التوضيح. نبدأ مع البداية ونبين أنه منذ بدء الخليقة والإنسان يسعي لحياة أفضل, تعددت وسائل الوصول إليها حسب نظرة الإنسان للحياة ولما هو أفضل, وفي العصر الحديث عندما تفجرت حركات التحرير.. تحرير الإنسان وتحرير العقل ظهرت نظريات وكتابات مفكري النهضة والتنوير فأصبحت الحرية والعدل والمساواة والمشاركة في مقدمة متطلبات الارتقاء بالمجتمع وحماية الإنسان, ومن أجل تحقيق هذه الأهداف ظهر عدد من الآليات نعاصر منها اليوم ثلاثا: الأمبودسمان, مجالس حقوق الإنسان, مبدأ المواطنة.. كلها تسعي لتوفير وحماية حق الإنسان في حياة أفضل.والدعوة للحرية والعدل والمساواة والمشاركة ليست جديدة علي الفكر الإنساني جاءت بها الأديان السماوية, بل وجدت قبلها, وفي لمحة سريعة تسترجع الذاكرة حكماء الفراعنة وكونفوشيوس وبوذا.. وعددا من الشرائع نشير الي قليل منها: لعل أولها شريعة حمورابي التي تعود لسنة780 ق.م, وهي مجموعة متكاملة من القوانين تشمل كل نواحي الحياة في بابل, وتوضح عقوبات من ينتهك الحقوق, وركزت علي السرقة, والزراعة واتلاف الممتلكات, وحقوق المرأة, وحقوق الأطفال, وحقوق العبيد, والقتل والموت والاصابات, وتختلف العقوبات علي حسب الطبقة التي ينحدر منها المنتهك لإحدي القوانين والضحية, ولا تقبل هذه القوانين الاعتذار أو توضيحا للأخطاء اذا ما وقعت, ويحلو للبعض المقارنة بين شريعة حمورابي وشريعة موسي وما بينهما من تقارب واختلاف. وهناك سولون المشرع والشاعر اليوناني(638 ق.م) أحد حكماء الإغريق السبعة, الذين يعود لهم الفضل في سن قوانين اجتماعية متقدمة, وذلك بعد حرب أهلية خاضها الفقراء ضد طبقة الملاك, وسمي قانونهم قانون اتيكا, ويتضمن حق الملكية الفردية المحدودة, وحق الشعب في الإشراف علي مؤسسات الدولة, وحق الجماعة في تشكيل وحدة لها قوانينها الخاصة التي تحكمها وتخضع لقانون الدولة العام. أما أسوكا أعظم ملوك الهند, فإنه بني امبراطورية واسعة ثم حاول أن يرسي السلام بعد أن فجع بأهوال الحروب وآلامها( وآثارها النفسية المأساوية علي الناس), فتحول الي رسول للسلام والأخوة الإنسانية, واقامة علاقات طيبة بين الحاكم والمحكوم. وجاءت المسيحية تدعو للسلام والمحبة والمساواة, وجاء الإسلام ليضع نهاية لعبادة الأوثان ووأد البنات ويدعو للبر والزكاة والتكافل. وسوف يذكر التاريخ دوما جستنيان( امبراطور روما الشرقية527 565) ومدونته, وهي عبارة عن مجموعة من القوانين المدنية, عرفت بقانون جستنيان, الذي يعتبر من أكبر الاسهامات الرومانية في مجال الحضارة, حيث جمعت بين القوانين الرومانية القديمة والمبادئ القانونية ممثلة في عدد من القضايا, وأصبحت أساسا لقوانين كثير من الدول, وقد قسمت الي عدة أجزاء. عدنا الي هذه اللمحة التاريخية المختصرة لنبين أن حماية الإنسان وحقوقه وآدميته ليست أمرا مستجدا ولا حكرا علي مجتمع دون غيره ولا ابتكارا غربيا.. ***** نعود للحديث عن الآليات المعاصرة التي يتناولها حديث اليوم وقد أصبح توضيحها مطلوبا, بعد أن تبين أن ما بينها من التقاء في الهدف وتقارب في الوسائل كثيرا ما يؤدي الي الخلط بينها, فيسود اعتقاد أن وجود احداها يغني عن الأخري أو يحاسب مجلس حقوق الإنسان علي أمور من اختصاص الامبودسمان أو يكتفي بالنص علي المواطنة, بينما كلها مطلوبة لتكاملها, لذلك أصبح من المهم توضيح ماهية كل منها ليس بهدف الفصل وانما لفهم الاصول والجذور وللتوضيح مع احترام التداخل. والأمبودسمان كلمة سويدية تعني مفوضا, والكلمة بمفردها لا تدل علي نظام معين بذاته, تطلق كلمة أمبودسمان للإشارة الي عضو البرلمان أو ممثل هيئة معينة, أو ممثل جماعات العمال, ذلك أنها تعني في الواقع من يقوم بتمثيل آخر أو المفوض من آخر, وهناك اليوم بالسويد وغيرها, عدد كبير من أنظمة الأمبودسمان لمراقبة أجهزة بذاتها أو لانصاف فئات معينة مثل أمبودسمان السكان الأصليين, أمبودسمان المرأة..الخ. أما الاسم الدقيق الذي يستعمل للتعبير عن النظام الذي جاء به دستور السويد ليكفل الرقابة البرلمانية, فهو الأمبودسمان البرلماني أو المفوض البرلماني وهو اسم أقرب دلالة علي فلسفة النظام وواقع نشأته, فهو المحامي أو المفوض الذي أوكل إليه البرلمان سلطة التأكد من حسن تطبيق القانون وعدم استغلال السلطة والحرص علي حريات الأفراد وحقوقهم من تعسف الحكومة أو القضاء. نشأ نظام الأمبودسمان في السويد نتيجة لتجارب وتطورات أثبتت الحاجة إليه, فقد عاشت السويد كغيرها من دول تلك المنطقة خلال القرون الوسطي حياة سياسية اقطاعية انفرد فيها الملك بالسلطة العليا واستقل نبلاء الاقطاع في حكمهم وما أن جاء القرن الخامس عشر حتي كان الخلاف قد احتدم, ظلت السويد تعيش في صراع مرير بين الملك والنواب أو بين النواب وبعضهم أو أنصار الوحدة ورافضيها.أثبتت الأحداث أن للملكية المطلقة مساوئها, كما أن لاستبداد البرلمان مساوئه وقام انقلاب انتهي بعزل الملك والمطالبة بحياة دستورية يتم فيها التوازن بين السلطات بطريقة تعمل علي الاستقرار وتضمن الحريات, وصدر دستور سنة1809 متضمنا نظام الامبودسمان الذي أخذ به العديد من الدول. يقصد بهذا النظام تفعيل دور المجالس النيابية في الرقابة وحماية حقوق الشعب من تعسف السلطات الأخري, ويختار البرلمان الأمبودسمان لشخصيته وكفاءته للمساهمة في هذه المسئولية نظرا لأن النواب لهم مشاغل كثيرة تتعلق بالتشريع والرقابة ومطالب الناخبين مما يجعل اهتمامهم بمشكلات الأفراد محدودا, كما أن أغلبهم سياسيون قد لا تتوافر لديهم الخبرة الفنية في كثير من الأمور, بينما يختار الأمبودسمان لاعتبارات الكفاءة والمقدرة ويختار لمكتبه أصحاب الخبرة المطلوبة, ويدخل في اختصاص المفوض جميع أعمال العاملين بالأجهزة الإدارية المركزية, ومنذ سنة1967 امتد اختصاصه للأجهزة المحلية, كما يشمل موظفي القوات المسلحة وكذلك العاملون بالسلطة القضائية, سواء في المحاكم أو سلطات الاتهام ويمتد اختصاصه ليشمل المحاكم العليا في حالات التقصير الشديد, وحسب المادة96 من دستور1809 للمفوض حق اقامة الدعوي أمام المحاكم المختصة ضد من ارتكبوا أعمالا مخالفة للقانون بسبب التحيز أو المحسوبية أو أي سبب آخر أو أهملوا في تأدية واجباتهم علي النحو المطلوب. وللحديث بقية.