لايهدف هذا التساؤل إلي المقارنة بين لفظ ولفظ, ولا إلي المفاضلة بين مصطلح ومصطلح, وإنما يهدف الي إبراز الفجوة الهائلة بين مفهومين متعاكسين, واتجاهين بينهما بعد المشرقين!! فمفهوم الإشراق. ذلك المفهوم الذي حمل لواءه علي مدي تاريخ الفكر الاسلامي الحافل مفكرون عظام, من ذوي القامات السامقة: يمثل تجسيدا حيا, ومزجا خصيبا بين مايحمله الاسلام من نور النقل, وضياء العقل, وقبس البصيرة, وطاقة الوجدان, كما يمثل بالاضافة الي ذلك ذخيرة فعالة دافعة يمكن ان تشحذ عقول الأمة, وتستحث إراداتها حين تفتر منها الهمة, أو يصيبها التخلف والغفلة وحينئذ يتحول هذا الاشراق الي إحياء لما تيبس من العروق أو نضب من العزائم, أو تراخي من الارادات!! حسب المرء ههنا أن يستعيد الخطوط البارزة للمشروع الفكري عند أبي حامد الغزالي, ثم عند الشاطبي, ثم عند العز بن عبد السلام, لكي يعثر لدي كل من هؤلاء علي جانب من جوانب هذا الاحياء, بعد أن يضاف إلي تلك الجوانب تجارب العصر, ودروس انكساراته وانتصاراته, وكل ذلك في إطار من ثوابت الأمة, وقطعياتها الراسخة. أما مفهوم التنوير علي الضفة المقابلة فإنه يؤسس لقطيعة معرفية مع المعارف السابقة عليه, سعيا لإحلال العقل بديلا عن النقل, كما أن مفهوم التنوير فوق ذلك يسعي بكل دأب إلي تذويب كل مايميز الدين من خصائص ثابتة, ومن معالم وتضاريس فارقة, لكي يضحي الدين فضاء قابلا لكل تفسير لايتأبي, ولايستعصم, ثم يمسي أعني الدين وقد استحال الي مجرد نصائح عامة غائمة هائمة, لايفترق فيها دين عن دين, ولاملة عن ملة, والدين كما يسعي اليه سدنة التنوير: لامناص له من أن يغمض العين عن كل مايتمايز به عن الآخر المختلف, فالتمايز في زعمهم تشرذم, والتعدد: فتنة, والمناعة الذاتية: دعوة للعداء, وترويج للتطرف, وواجهة للتخلف!!! ثم أقول شتان بين إشراق يتلمس السبيل الي المستقبل, مستضيئا بمصابيح الهدي الإلهية المصدر, وبين تنوير يهشم تلك المصابيح تهشيما, ويستأنف البحث عن المستقبل من جديد, وكأن لم يكن في ماضي الأمة إلا العدم والخواء وقبض الريح!! شتان بين إشراق يستعمل العقل والتجربة حيث ينبغي استعمال العقل والتجربة, ويستند الي النص الثابت حيث يجب الاستهداء بالنص, وبين تنوير يود لو أن بينه وبين النص أمدا بعيدا, حتي يصبح العقل وحده هو الملجأ والملاذ, والمرجع والمآب!! شتان بين إشراق يستمسك فيه المسلم بما يميزه عمن عداه, ويستعصم بما يحدد معالم هويته الاسلامية, دون أن يصده ذلك عن معاملة المختلفين معه دينا وعقيدة بالعدل والنصفة, والبر والقسط, وبين تنوير يطمح إلي أن تذهب معالم الهوية أدراج الرياح, وأن تمسخ كل جوانب المنعة الذاتية إلي غير رجعة!! شتان بين إشراق يطمح إلي أن يتعايش المسلم المستمسك بأصول عقيدته مع المختلفين معه في العقائد تحت ظل وطن واحد يتساوون تحت سمائه حقا وواجبا, وأملا وألما وبين تنوير يري أنه لاتعايش الا حين تذوب الهوية, وتنمحي الذاتية, ويزول التعدد, وينتفي التمايز! لقد ابتغت العولمة أن تصنع قريبا من هذا الصنيع لأسباب شتي وذلك بأن تجعل الأنماط الثقافية المتعددة: نمطا واحدا, وأن تصهرها جميعا في بوتقة القرية الكونية الواحدة, فإذا بالإثنيات والعرقيات التي كانت هاجعة قابعة في ركن قصي من الذاكرة البشرية وقد استيقظت من سباتها, فتناثرت الكيانات العظمي, وانهارت السرديات الكبري, واصطلي العالم بصراع ملتهب, لايهدأ له أوار!! والحق أن المرء لتعتريه الدهشة حين يخلط سدنة التنوير بين الاستمساك بمضامين العقيدة, وثبات المقومات الدينية للمسلم في العقل الجمعي للأمة, وبين التعصب والتطرف, والعداء والتأزم, والاحتقان والعنف, في غفلة بائسة عن أن التعصب والتطرف ظاهرة متعددة الأعماق, متشعبة الاسباب, وفي غفلة بائسة ايضا عن أن الظاهرة الاجتماعية لايمكن أن تفسر علي وجهها الصحيح إلا بتحليل جميع العوامل التي تفاعلت لكي تنتجها, وفي غفلة بائسة كذلك عن أن هذا الخلط ينطوي علي تبسيط فقير لظاهرة شديدة التعقيد, تتأبي بطبيعتها علي أحادية النظرة, وسطحية التناول!! كما أن المرء لتعتريه الدهشة ايضا حين يريد سدنة التنوير أن تعالج الأمة الاسلامية مشكلاتها وتتخلص من أثقالها باستنساخ الحل الأوروبي الغربي المسيحي ذاته, فتستعير نفس مقولاته وترتدي نفس أرديته, وتخوض نفس معاركه تحت لافتة التنوير البراقة الخادعة. ألم يكن العلامة ابن خلدون علي صواب حين كشف في مقدمته عن ولع المغلوب بتقليد الغالب, والسير في ركابه, والنسج علي منواله؟؟