أثارت عاصفة إخفاق وزراء المياه في دول حوض النيل في الاتفاق علي صيغة يقبلها الجميع لمستقبل الإدارة المائية في الحوض شجون العديد من المواطنين المصريين. وإصابتهم ربما لأول مرة في تاريخ التعاون مع الدول النيلية بخيبة أمل غير معهودة, وبعثت فيهم ذلك النوع من القلق من المستقبل, ومايمكن أن يصل إليه حال البلاد والعباد إذا لم تنسب مياه النيل بمعدلاتها المعهودة منذ الأزل, أو إذا أصيب النهر لأول مرة في التاريخ بالجفاف وأضيرت البلاد من جراء القحط الناجم عن شح المياه. من المهم هنا أن نشير إلي أن المجتمع المصري بشكل عام يميل إلي ثقافة الوفرة في التعامل مع الماء وكيف أن النيل الذي هو بهذا الاتساع وهذا الطول لا يمكن أن يكون سوي المعين الذي لا ينضب والنهر الذي لا يجف له ماء, والمجري الدائم الذي يحمل للبلاد كل أسباب التقدم والرقي والنماء والرخاء ومن ثم فإن فلسلفة ترشيد استخدام الماء تبدو لجمهور المواطنين في مصر كما لو كانت دعوة الي البخل والتقتير في نعمة من نعم الله التي كتب لها الدوام واحاطت بها الكفاية واتسمت بالقدرة علي تغطية كل نشاط والاستجابة لكل مطلب. والحق أن قلق الشارع المصري مماحدث له مايبرره, ذلك أن جمهور المصريين تعود علي أن يسمع علي الدوام عبارات التهدئة والأطمئنان وأن الظروف الطبيعية وتضاريس حوض النيل لا تسمح ولا تساعد من يبغي احتجاز الماء في منطقة أعالي النيل علي المغامرة بإنشاء سدود ذات ارتفاعات شاهقة, وأن معظم دول الحوض ليس لديها تقنيات إنشاء مثل هذه السدود ولا تقنيات انشاء محطات توليد الكهرباء ولا يوجد لديها الفائض من الأموال اللازمة للتمويل, وأن المجتمع الدولي تحكمه أعراف وقوانين ترفض تمويل مثل هذه المشروعات دون الحصول علي موافقة الدول التي يمكن أن تتضرر من جراء إنشائها لذلك فإن الحصة الحالية للبلاد علي أقل تقدير مضمونة ومصونة ولا يمكن لأحد أن يتلاعب بها أو ينقص منها بل ان الاحتمال الوارد هو أن تزداد هذه الحصة بإقامة مشروعات استقطاب الفواقد في منطقة أعالي النيل والتي بدأت بمشروع قناة جونجلي الذي لم يكلل بالنجاح الكامل حتي الآن, كذلك رصد الشارع المصري من دواعي التهدئة والاطمئنان أن مصر كانت علي الدوام المدافع الأول عن حقوق دول حوض النيل بل ودول القارة الافريقية كلها وأنها ساعدت بالمال والدم والسلاح والدبلوماسية في حصول معظم هذه الدول, علي استقلالها, وأن مصر دعمت وتدعم العديد من المشروعات التنموية المهمة في بعض من هذه الدول وأن مصر التي بدأت مبادرة حوض النيل بغرض اتاحة التمويل المستدام لأي من دول الحوض للاستفادة بكل الأنشطة التنموية, وأن هذه الأنشطة كانت علي وشك البدء في مراحل التصميم والتنفيذ, وأن ماشاركت فيه مصر من البرامج حتي قبل مبادرة حوض النيل قد عاد بالخير العميم علي الكثير من دول الحوض كل هذه العوامل كانت في قراءة المواطن العادي في مصر تشير إلي أن الحد الأدني الذي يمكن أن يقبل به هو رد هذا الجميل وإعادة ولو النذر اليسير مماقدمته مصر لهذه البلاد. إلا أن الحقائق علي أرض الواقع لها إملاءات قد تكون علي اختلاف مع توقعات المصريين ذلك أن معظم دول حوض النيل ترصد باهتمام الفارق الحضاري بين مصر وباقي دول الحوض من حيث الأطر والأنشطة التنموية المختلفة وكيف أن مصر بهذا القدر اليسير من مياه النيل استطاعت أن تطور زراعة حديثة وصناعة نامية وسياحة مطورة, وأن الدور قد جاء علي هذا البلاد التي تقع في منابع الحوض للوصول الي نفس الدرجة من التقدم والرقي كذلك تقول الحقائق علي أرض الواقع أن ماكان بالأمس غير ممكن أصبح اليوم سهلا, وأن تقنيات انشاء السدود ومحطات الكهرباء أصبحت في متناول الجميع, وأن التمويل الذي لم يكن متاحا لضخامته سوي لدي المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أصبح الآن مطروحا بأكثر الشروط سلاسة وتيسيرا من هنا فقد طرحت بعض دول المنابع العديد من المشروعات في السوق العالمية وحصلت بالفعل علي التقنية والتمويل اللازم لها, بل وعلم الجميع أنه تم بالفعل الانتهاء من مشروعات مثل سد تيكيزي وتانا بليز في الهضبة الإثيوبية والتي ساعد في إقامتها الخبرة والتمويل من الصين وإيطاليا, وأن هناك العديد من المشروعات إما في طور التصميم أو تحت التنفيذ في أكثر من دولة من دول حوض النيل بل وفي السودان الشقيق أيضا. هل ستعود مياه النيل إلي مجاريها ويعود المواطن في مصر إلي الإحساس بالاطمئنان والتهدئة؟ والإجابة عن ذلك أن الممكن الآن أن تعود دول حوض النيل إلي طاولة المفاوضات وأن تستأنف المفاوضات بأسرع مايمكن, إلا أن دوام الحال من المحال, ذلك أن الاستمرار ضمن نفس المنهج السابق لن يكون ممكنا, إذ إن المفاوض في المرحلة المقبلة يلزمه أن يدرس أسباب الاخفاق في المرحلة السابقة وأن يبني علي هذه الأسباب مايتيح فرص النجاح والتي أتصور أن يكون من أهمها الدراسة المتأنية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لكل طرف من أطراف التفاوض وحاجة كل طرف من مياه النيل وحاجته للمساعدات الفنية والمالية والعينية الأخري, وأن توضع مقاربة الربح والمكسب والمنفعة والفائدة لي ولك ولكل طرف من أطراف التفاوض علي طاولة المفاوضات وأن يتحلي المفاوض بالصبر والسماحة والأناة وأن ينأي عن الاستعلاء والاستقواء والخيلاء واستضعاف الآخرين والاستهانة بقدراتهم وحنكتهم ومعرفتهم ببواطن الأمور ودراستهم المستفيضة لكل جوانب هذا الملف المهم. علينا جميعا أيضا أن نعلم أن هذا الموضوع لا يمس فقط مصالح هذا الجيل من المصريين انما يمكن أن يكون له آثار متعددة علي الأجيال القادمة من هنا فإن الأمر لايمكن ان يترك لفرد أو مجموعة لاتخاذ القرار انما يجب أن تتنوع خبرات الفريق المفاوض وأن يدلي كل بدلوه, وأن يكون التشاور والمناقشة هما الأساس في اتخاذ القرار.