هذا العنوان, يحمل إجابتي علي السؤال الذي طرحه د.علي الدين هلال وأشرت إليه في مقال الأحد الماضي في هذا المكان. عادة عندما تطرح الأسئلة, فإنها تحتاج لإجابات, لكن طرحها في المقام الأول, يعني غياب شيء نحتاج ونبحث عنه, بمعني آخر يعني وجود أزمة, وسؤال الدكتور علي الدين هلال يعني بوضوح وجود هذه الأزمة ويجعلنا نعترف بوجودها ونسرع بتوصيفها وتشخيصها لمعرفة مسبباتها وأعراضها, وبالتالي نبحث عن علاج لها في إطار البحث عن ملامح المشروع الثقافي والسياسي, الذي سيكون اساسا لنهضة مصرية نسعي إلي تحقيقها, إذن نحن نعيش حالة تراجع فكري وثقافي, بدأت ظواهرها الأولي في أواخر السبعينيات من القرن الماضي, بتحولات كان يمكن قبولها وفهمها باعتبارها تطورا في طبيعة التركيبة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في مصر تتواكب مع المتغيرات السياسية والاقتصادية التي شهدته كل دول العالم, عقب انهيار النظام العالمي وانتهاء صراع القطبين, بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق, والمعسكر الاشتراكي, كان من الممكن إدراك ذلك لو تلازمت المتغيرات السياسية والاقتصادية التي شهدتها مصر في هذه الفترة, مع الحالة الثقافية والفكرية في المجتمع. فالملاحظ أن تغير أسس النظام الاقتصادي وتبدل الخطاب السياسي لم يشمل الحالة الثقافية, وبدا أن هذه المتغيرات تسير في اتجاه في حين سارت الحالة الثقافية للمجتمع في اتجاه آخر, فقد خرج المجتمع المصري من شموليته السياسية والاقتصادية ببوادر تعددية حزبية اطلق عليها المنابر, وببدايات اقتصاد حر اطلق عليه انفتاح اقتصادي ولكنه سقط بل تم اسقاطه في شمولية ثقافية, وكأن الهدف الحقيقي لهذا التغيير هو اسقاط النهضة الثقافية والفكرية الذي كانت العنوان الكبير لكل النجاحات والانتصارات التي حققها المجتمع المصري منذ بدايات القرن العشرين, ويبدو أن الذين استهدفوا ذلك كانوا يدركون أهمية هذه النهضة الثقافية التي تميزت مصر بما حققه علماؤها ومفكروها وأدباؤها وفنانوها من إبداع في مجال العلم والفنون والآداب والشعر والقصة والرواية, في ظل مناخ ثقافي انحاز للحرية والابداع والحريات وللعقل والتفكير العلمي, ولهذا تعرضت مصر لغزو فكري استهدف حصار العقل المصري بأفكار ونمط حياة وسلوك لم يعرفه المصريون من قبل, وتم التضييق علي إنتاج عشرات المبدعين وحجب مئات الإبداعات الفنية القديمة, سواء في المسرح أو في الإذاعة والتليفزيون والصحافة, وامتد الأمر إلي مناهج التدريس في المدارس والجامعات, ووصل الأمر إلي حذف مقاطع من أغنيات كان يستمع إليها المصريون منذ عشرات السنين حتي امتد إلي التاريخ, ليتم حزف مراحل كاملة منه, أو تزويره, أو غسيله في بعض الاحيان لنجد أنفسنا نواجه اخطر عمليات التجريف وهو التجريف الثقافي الذي استهدف الهوية الوطنية والعقل والتراث الفكري واوصلنا ذلك لحالة ومناخ ثقافي لم نعرفه من قبل مناخ بدا بالحصار ثم التجريم والتكفير وانتهي الي فتاوي الذبح والاغتيالات. إن احدي المفارقات الغريبة في مراحل تطور أو تغير المجتمع المصري التي تدعو للدهشة هي كيف استطاع مجتمع في حالة حرب واقتصاد موجه ويخوض صراعا اقليميا, ويعتبر جزءا من استقطاب دولي حاد, ويحكمه تنظيم سياسي واحد لايعترف بوجود كيانات أو اراء اخري, اي نظام لايمكن اعتباره نظاما ديمقراطيا, كيف استطاع هذا النظام وهذا المجتمع أن يحافظ علي وحدته وتماسكه الوطني, وينجح في احداث نهضة ثقافية في كل المجالات وكان فيه الجديد هو المنتصر دائما, وكانت افكار الاستنارة والتحرر هي السائدة داخل وجدان وأفكار اغلب طبقاته ومواطنيه, هذا المجتمع الذي اطلق عليه البعض شموليا, وربما كان كذلك لم يكن إلي حد بعيد شموليا علي المستوي الثقافي والفكري, وهنا تكمن المفارقة الثانية, في مصر الآن تعددية سياسية وحرية صحافة واقتصاد حر ومناخ مفتوح, ولكننا نعيش حالة من الانغلاق والتطرف والمغالاة إنها حالة من التراجع الثقافي التي غابت فيها قيم المنهج العلمي في التفكير, وغاب فيها الحوار والتسامح واحترام حق الاختلاف والتنوع الثقافي والفكري والديني, مناخ لايزال البعض فيه يتصور أو يحلم ويسعي لعودة الماضي ويدعي امتلاك الحق والحقيقة وحده, ويعادي كل قيم التفكير العلمي والاجتهاد وأعمال العقل ويريد تقسيم المصريين والتفريق بينهم علي اساس الدين أو العقيدة او الجنس, ويعادون الفنون والإبداع وحقوق المرأة ويعتمدون في ذلك علي صمت البعض أو خوفهم وعلي بعض التشريعات التي تعطيهم حق الحسبة وحق تكفير الناس. ويمكننا الآن أن نقول ان الحالة الثقافية والفكرية في مصر تمر بمنعطف خطير حيث تشهد حالة من الصراع بين القديم والحديث مع سيادة وانتشار ملحوظ للأفكار والتصورات الماضية, وتراجع قيم وأفكار الحداثة, وغياب الرؤية المستقبلية بعد اختلاط مفاهيم الحرية والإيمان والانتماء الوطني, وباتت الشخصية المصرية أسيرة للخوف الذي تم استدعاؤه مع الماضي ومحاولة فرضه عليها. هذا هو التوصيف الحقيقي للحالة الثقافية والفكرية في مصر أو جزء منه واعتقد أن ذلك سيمنحنا القدرة علي وضع رؤية شاملة لمشروع ثقافي تقوم علي اكتافه النهضة المصرية في كل المجالات وأتصور أن بعد هذا التشخيص الملخص أستطيع الآن أن أتكلم عن ملامح مشروع ثقافي للنهضة المصرية وهذا ماسأفعله في مقالي المقبل. المزيد من مقالات مجدي الدقاق