واحد من الأهداف الأكثر إلحاحا وتكرارا في محاولات قوي الشوارعيزم تقويض شكل الدولة الحالي, وتأسيس الوجود البديل, هو ضرب نظام الإعلام الرسمي بفرعيه في الصحافة والتليفزيون. وكان الأكثر مدعاة للاستغراب في هذا السياق هو أن المجتمع ونحن طليعته رحب بظهور الصحافة الخاصة, والإعلام الخاص, ورأي فيهما اقترابا ديمقراطيا, يستشرف أفقا جديدا للحرية في البلاد, ومع ذلك سرعان ما جعل بارونات الإعلام الجدد( رجال الأعمال) من الإعلام الرسمي( صحافة وتليفزيون) شاخصا لرماية حرة, تبغي في إصرار لدود إهدار قيمة إعلام الدولة وتسخيفه, وسلبه المصداقية, وتنميطه في الذهن العام بوصفه أيقونة النفاق, والكذب, والمداراة والتستر, وترويجه ما ليس رائجا, وتسويق ما لايمكن تسويقه. وربما تكون لنا قائمة من الملاحظات المهنية الجوهرية علي أداء الصحف القومية, والتليفزيون الرسمي, نوردها كلما اقتضت الضرورة, ولكن ذلك لا يعني علي أي نحو اعتبار الإعلام الخاص( صحافة وتليفزيون) كامل الأوصاف.. لا بل إن ذلك الإعلام الخاص علي الرغم من كونه بحكم التعريف والطبيعة متحررا من القيود الرسمية التقليدية التي تثقل كاهل الإعلام الرسمي, قدم لنا صيغة لا تليق بمصر كبلد, ولا بصناعة الصحافة المصرية العريقة, ولا بعصرية الأداءات الإعلامية التي نراها في الدنيا بأسرها. وذهبت وسائط الإعلام الخاص الي أبعد بعيدا في تصنيع أزمات وفرقعات, والطنطنة حولها بغية هز كيان الدولة, وتأسيس الوجود البديل الذي تريده قوي دولية عاتية, والانتصار لقيم التجارة والتوزيع علي حساب الثوابت المهنية, والالتزام الوطني, والمسئولية الاجتماعية. لكن أكثر ما أحسست بخطورته في نهج بارونات الإعلام الخاص( صحافة وتليفزيون) هو وصمهم للجريدة التي أعمل بها, ومحاولات ضربها, والإساءة المتواصلة لها, وبعضهم جعل من ذلك النهج لسنوات شغلته التي لا يتوقف عنها في أي محفل اجتماعي أو سياسي أو أمني من تلك التي تعود الشقشقة والزقزقة فيها. وضمن عناوين تلك الهجمة.. الحديث عن كتاب الجرائد القومية بوصفهم خداما للسلطة, ولاعقين لبلاطها وهو أمر لو يأذن لي بارونات الإعلام الخاص يحتاج الي كثير مراجعة.. فما جري في هوجة تأسيس الإعلام البديل حقيقة كان لافتا للنظر, إذ اقتني كل من رجال الأعمال وبارونات الإعلام الخاص كاتبا صار هو الناطق بأفكاره والمؤتمر بأمره, نائبا عنه في التعبير, مدافعا عن مصالحه, ومهاجما من يكريه عليهم. وراح مثل أولئك الكتبة يصبون جام غل وصفراوية وموجدة علي أصحاب الأقلام في الصحف الحكومية, مكررين وصفهم بخدم بلاط السلطة. يعني بعض كتبة الإعلام الخاص يدينون الخدمة في بلاط الحكم فيما أصبحوا هم أنفسهم خدما في البيوت!! القصة كلها تذكرني بماركة شركة اسطوانات شهيرة( لوجو) شاهدتها للمرة الأولي طفلا علي اسطوانات أبي, واسمها صوت سيده (His-Master-VOice) وفي ذلك اللوجو يظهر كلب أقعي علي قدميه الخلفيتين, ومد بوزه الي بوق جرامافون متحدثا أو نابحا فيه. وظني أن شركة الاسطوانات اختارت ذلك الرمز شعارا لها, كون الكلب في اخلاصه ووفائه ينقل بدقة في الجرامافون ما يريد سيده من دون تحريف, أو تشويش, أو شوشرة.. وهو نفس المعني الذي تكرر ثانية إبان الحرب العالمية الثانية لما ظهر السياسي البريطاني الفاشي, والمذيع الدعائي وليم جويس, مهاجما بلاده في برنامج بالانجليزية من ألمانيا, بعنوان:( ألمانيا تنادي) داعيا لاستسلام بريطانيا, الأمر الذي دفع الناقد البريطاني جوناه بارينجتون الي إطلاق لقب:( لورد هاوهاو) عليه, وهو ما ردده الزعيم البريطاني المحافظ ونستون تشرشل بعد ذلك مقرونا بأن( لورد هاوهاو) هو صوت سيده في برلين. وعلي الرغم من أن سيده منحه وسامين ألمانيين, إلا أن القصة انتهت بإعدام وليم جويس في3 يناير1946. أضرب هذا المثل بعد حكاية شركة الاسطوانات لأشير الي المعني المؤلم المخجل لإنسان قام بتسليم دماغه الي شخص آخر, فقد استقلاليته, وأرجحية رأيه, وحريته في التعبير, واحترام الناس له, وربما احترامه لنفسه. ونحن بالقطع نعرف أن لكل إنسان الحرية في انتماءاته وارتباطاته, وتعبيره عمن يشاء التعبير عنهم, ولكن ما ليس من حقه علي وجه اليقين هو التهجم علي أصحاب الأقلام في الصحف القومية, واصفهم بما يرتكب شخصيا, معتبرا أن الخدمة في البيوت, أفضل من الخدمة في بلاط السلطة, فيما أتحفظ هنا مذكرا من شاء أن يتذكر أن الصحافة القومية والإعلام الرسمي, يحفلان بكتابات نقدية موجهة ضد رموز ونجوم السلطة, وسياساتها, ومواقفها, فيما جاءت الجرائد الخاصة, والتليفزيون الخاص خلوا من حرف واحد ينتقد ناشريها أو أصحابها. بعبارة أخري, كانت الجرائد القومية والتليفزيون الرسمي أوسع صدرا في قبول النقد والاختلاف( برغم مؤاخذاتنا عليهم وبالذات المهنية), فيما لم يسمح الإعلام الخاص بانتقاد أصحابه, ولو بالأدب, وبكل رفق وحنان. كل ما تتعرض له الجرائد القومية من تهجمات بارونات الإعلام علي مستوي التحرير والإدارة والإعلانات والتوزيع والاشتراكات, هو أمر يدعو للاستفهام, إذ يبدو أن الحكاية ليست سقفا أعلي لحرية التعبير أو إفشاء الليبرالية,( يتوق إليه بارونات الإعلام الخاص ولا تتيحه وسائل إعلام السلطة) ولكن الموضوع هو الرغبة المريرة والمتواصلة لإطاحة وسائل إعلام الدولة وتدميرها, وتكريس الإعلام الخاص بقيم وحدانية سلطة الناشر, وقدسيته, وعدم قابليته للمس, أو الاقتراب وربما التصوير! كل السطور السابقة تذكرني بمسرحية( برافدا) التي عرضها المسرح القومي البريطاني عام1985, ودخلتها متصورا أنها تتعرض لجريدة الحزب الشيوعي السوفيتي السابق, وفوجئت أنها بإسقاط كثيف ومتكرر ناقشت مسألة ملكية الملياردير الأمريكي الاسترالي روبرت ميردوخ لجريدة التايمز البريطانية العريقة, وكيف أن رجل الأعمال الشهير قيد حرية الصحفيين والعاملين في تلك الصحيفة, بأكثر مما فعلت السلطة الحديدية السوفيتية في جريدتها( البرافدا)! أما عندنا فإن الكتبة الملاكي الذين اقتناهم بارونات الإعلام سعداء جدا بترديد أفكار رؤسائهم, والالتزام بجدول أعمال صداقاتهم وعداءاتهم, ومصالحهم, وميولهم, ومزاجاتهم. نعرف أننا في بلد حرIt's-afree-country.. هؤلاء الكتاب أحرار, وبارونات الإعلام الخاص الجدد أحرار, والصحف الخاصة حرة, والتليفزيونات الخاصة حرة, ولكن شريطة ألا يهاجمنا أحد فيما فيه, وألا تستهدفنا قوي الشوارعيزم( الطابور الخامس في الإدارة والمتمولون من رجال الأعمال وارهابيو الصوت والقلم من الصحفيين والإعلاميين المأجورين), محاولة وصمنا بالتزام التقييد والتلقين وواحدية الرأي, فيما تقوم بتسويق نفسها باعتبارها ملتزمة الحرية والفسح, والتنوع والاختلاف. ذكرت كل ما فات في الدفاع عن الصحافة القومية التي نكتب فيها, والإعلام الرسمي الذي نرتبط به.. ولكي يفيق من ينبغي أن يفيق!!