تعمد قوي الشوارعيزم في مصر.. الباحثة عن الفوضي, وإطاحة وجود الدولة وسيادتها إلي إشاعة وإذاعة بعض العبارات المتكررة عن زوال عصر الإعلام الرسمي, ولزومية أن يحل مكانه الإعلام الخاص في الصحافة والتليفزيون والإذاعة. وعلي الرغم من أنني سطرت هنا لمرات عديدة ما يشير إلي أهمية فهم النظام الإعلامي المصري بوصفه حاصلا لجمع الإعلام الحكومي, والإعلام الخاص والجرائد القومية, والجرائد الخاصة والوسائط الالكترونية متنوعة الدرجة والمستوي, أجدني مضطرا إلي إعادة طرح المعني من جديد بتركيز علي علاقة إعلام الدولة بمفهوم السيادة. السيادة في أحد تفسيراتها هي احتكار قوة الارغام. ولما كنا دولة تتضاغط مع عدد من دول المنطقة صاحبة المشاريع المتقاطعة مع مشروع أمننا القومي, فنحن بالقطع بحاجة إلي احتكار قوة الإرغام الإعلامي بالنسبة للآخرين, وتطويرها من آن لآخر لتلائم غرض المواجهة, وتلك إحدي مهام إعلام الدولة دون شك. ومن جهة أخري, وعلي مستوي الداخل نحن الآن في موسم انفلات ينتهز فيه البعض الحالة الانتخابية( البرلمانية) و(الرئاسية), لينقض علي مؤسسات الدولة التي استهدفها طوال السنوات الخمس الماضية واستعصت علي إطاحتها أو النيل منها. نحن في زمن التسويق السياسي والإعلامي للطروحات الغامضة والاشخاص الغامضين الأسطوريين( الزعماء الافتراضيين القادمين من وراء البحار), والبدائل والخيارات غير واضحة الدلالة بذاتها( وضمنها بالقطع مسألة زوال الإعلام الرسمي) ووجود إعلام للدولة لاينساق وراء عمليات( الافتعال السياسي) واسعة النطاق التي تجري الآن, يعوق دون شك مخططا يحاك في وضح النهار, ولا يحتاج إلي كثير ذكاء لاكتشافه وسبر أغواره. صحافة( كل يوم أزمة).. وفضائيات( شجار قبل النوم) تستعد الآن لموسم رواجها الانتخابي الذي حققت عبره منذ خمس سنوات ارتفاع أعداد قرائها أو زيادة نسب مشاهديها ولكي يتحقق هذا الإنجاز من جديد, تنطلق موجات الهجوم عبر الاثارة علي مؤسسات الدولة التي تمثل ركائز للنظام العام, ومنها بنية الاحزاب السياسية نفسها, من خلال إثارة الشائعات, والإيحاء المتواصل بتواطئها مع السلطة, ومنها كذلك تعمد القفز فوق نصوص القانون والدستور وتجاهلها, وطرح صيغ هلامية, للتغيير, بينها الإشارات الخطيرة المقلقة حول السماح بقيام الاحزاب الدينية.. وضمن ركائز النظام ايضا الإعلام الرسمي الذي يستهدفونه بالإطاحة, ويتحدث عن زواله نجوم طبقة الشوارعيزم الجديدة متجاهلين كونه أحد رموز سيادة الدولة, ومتعامين عن وجود وحضور الإعلام الحكومي بصيغ متنوعة في الديمقراطيات الغربية التي يتحدثون عنها بشكل انتقائي, فيوافقون علي ما يحقق أهدافهم السياسية أو رغباتهم الشخصية أو توجهات الاجندات التي يخدمونها, ويشيحون عما يلزمهم حدود المسئولية إزاء الوطن والناس. والحقيقة أن صفتي المزدوجة كجزء من مشروع تطوير إعلام الدولة, بالإضافة إلي كوني كاتبا صحفيا في مؤسسة قومية كبري, تمنعني في كثير أحيان من تضمين كتاباتي بعض الإشادة الواجبة بما يجري في إطار مشروع تطوير الإعلام الرسمي. لا بل ربما فإن تلك الصفة المزدوجة ذاتها تدفعني إلي تغليب الجانب النقدي الذي يأخذ شكلا مريرا بعض الأحيان في تناول أداء الإعلام, حماية لمعني استقلالية الكاتب. ولكن مع ذلك فإن تلك الاستقلالية لا تمنعني في سياق هذا المقال وإطاره من الحديث عن انجاز لمشروع تطوير الإعلام في مصر, ربما لايتعلق بما نراه مباشرة علي الشاشات أو نسمعه عبر الأثير, لكنه يرتبط قولا واحدا بسيادة الدولة وأقصد به دعم كفاءة وإعادة تجديد أبراج الارسال, ومحطات التقوية والهوائيات والاطباق, الأمر الذي يعني أن صوت بلدنا سيصل إلي حيث ينبغي أن يصل, ويعني أن الصورة ستنتقل من عصر( الأنالوج ANALOG) أو الإشارات التماثلية للصورة إلي عصر( الديجيتال DIGITAL) أو التقنية الرقمية التي تتجاوب ليس فقط مع التطورات العالمية وإنما مع الالزامات الدولية المفروض علينا الانصياع لها. ولأكثر من مرة آخرها منذ أيام حدثني السيد أنس الفقي عن مشروعه لتطوير الإعلام المصري, وكنت أدهش من عبوره بسرعة علي تلك النقطة, التي ربما رآها الأقل جذبا للاهتمام العام, كونها بعيدة عن الحديث التقليدي عن الإعلام الذي يختصره بعضنا في التليفزيون, وفي مفاضلات كل منا حول البرامج, بحسب الذوق والمستوي الثقافي والميول السياسية والمزاجية لكن تلك النقطة في ذات الوقت هي الأكثر ارتباطا بمفهوم سيادة الدولة, وعلاقة مؤسسة الإعلام به. يتحرك أنس الفقي الآن في طريق أسميه إعادة الاحياء التقني والهندسي, ويسعي إلي تغيير واقع متهالك, وبنية تحتية تجاوزت عمرها الافتراضي بسنوات عديدة. وربما كان تحميل مؤسسة الإعلام بمسئولية تسويق سياسات وقيم وأهداف الوزارات جميعا, هو سبب انشغالها عن تسويق ادائها ومشروعها الضخم هذا للتطوير الذي يعني بالعربي جهاز إعلام جديد! تحرك الفقي نحو انشاء شركات تضم بعض انشطة الإعلام وتعمل علي أسس اقتصادية صحيحة أو نحو اطلاق برامج متميزة غيرت شكل الشاشة أدعوكم إلي محاولة تذكر ما كان المنظر عليه قبل خمس سنوات وربما نختلف في أولويات تلك البرامج لكننا في التحليل الآخر نشير إلي تميزها عن ذي قبل. وقد تحقق ذلك بمنطق المراكمة علي انجاز سابق, وليس بمنطق الانقلاب عليه وهو عكس ما يسود في الثقافة المصرية المعيبة. هذه كلها أشياء مهمة لكنها حين ترتبط بالنقلة الضخمة التي تجري في المجال الهندسي ومجال البنية التحتية الاستوديوهات والكاميرات والمعدات, نستطيع أن ندرك بوضوح أن مصر علي الطريق الصحيح. نحن لا نري في صحف آخر الزمان نقدا علي المستويين الفني أو السياسي موجها إلي الإعلام الخاص أو الصحافة الخاصة وكأنها جميعا كاملة المعاني لا يأتيها الخطأ من بين يديها ولا من خلفها ولكننا نشهد كل يوم اعتراضا لمسيرة الإعلام الرسمي, ومحاولة لإرباك رسائله السياسية أو الاجتماعية ونزوعا إلي إفقاد العاملين فيه أو القائمين بالاتصال الثقة في أنفسهم وفي تفاعل الجمهور معهم. جري تصنيع عدد من نجوم المرحلة التليفزيونية والصحفية إذا جاز التعبير في صوبات الجرائد الخاصة والإعلام الخاص وهم جميعا ينتمون إلي فريق واحد ولا تثريب ولا ملامة في هذا, لكن محاولة تقويض الإعلام الرسمي بكل ادائه لمصلحة أولئك هي العيب الكبير, لأنها تعني اضعاف عناصر القوة الشاملة للدولة وضمنها ومن أهمها الإعلام الرسمي. إن نظرة واحدة إلي الاضافات البرامجية الأخيرة في التليفزيون الرسمي تقول إنه حقق نقلة واضحة في الشكل والمضمون ومحاولة بناء جسور ثقة جديدة مع الناس والتفاعل معهم لكن ذلك مع كثير الاسف لا يلقي الاعتراف الواجب من جانب الإعلام الخاص أو الصحافة الخاصة. كل ما نراه هو تلك النزعة التفكيكية التي تتبناها قوي الشوارعيزم( بعض رجال الإدارة+ بعض رجال الأعمال+ حملة الأقلام ولواقط الصوت في الوسائل الخاصة) التي تريد اطاحة إعلام الدولة وصحافتها وتأسيس الوجود الإعلامي البديل. وعلي الرغم من أن الوزير أنس الفقي في تقديري أحد المشغولين في التعامل مع اسئلة الواقع الجديد في البلد وعلي الرغم من انفتاحه الدائم علي الحوار مع كل القوي السياسية والثقافية والاجتماعية الصاعدة. وعلي الرغم أخيرا من مرونته في التعامل مع منتقديه فان الاعتراف العام بمنجزه في مجال تطوير الإعلام مازال يتأخر ويتعثر لأن الاستقطاب السياسي الشديد يدفع بأصحابه إلي إدانة كل ما هو حكومي أو إنكاره, ولأن فكرة بلهاء ومغرضة عن زوال إعلام الدولة تلبست البعض في معرض طرح إعلامهم البديل. هناك أهمية لمن شاء أن يتعلم أن يكون لدي مصر إعلام دولة في مرحلة نموها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحالية لأن مرافق الإعلام العربية التي تتغني بها الطبقة الجديدة وتتغزل هي في نهاية المطاف ممثلة لإعلامات دول. والنهوض بتكلفة مثل تلك المرافق ليس عملية يمكن أن يقوم بها الأفراد, إلا إذا استعانوا بتمويلات من هنا أو هناك تعينهم علي تسيير دفة المرفق الإعلامي التي نظرا لكلفتها الضخمة فانها تدار علي نحو غير اقتصادي( يعني تتحمل الخسارة طوال الوقت ولا تنتظر مكسبا). ثم أن امتلاك البنية التحتية للإعلام هي الاخري مسألة باهظة لا تطيقها الوسائط الخاصة ولا أصحابها حتي لو تشاركت. وأخيرا فإن التضاغط مع وسائل إعلام دول الاقليم الذي نعيش فيه, والتي يتخذ بعضها سياسات عدائية تماما مع مصر هو أمر يفرض احتكار قوة الارغام كما كنا نشرح, ويفرض وجود إعلام قوي في مصر والإعلام القوي هو إعلام الدولة, لأن جلسات الارائك في الإعلام الخاص عندما يأتي المساء, والصراخ بعلو الصوت هي تصنيع للضجيج وليست صناعة للقوة الإعلامية. نعم.. نحتاج إلي إعلام الدولة في المواجهات الاقليمية الاستراتيجية المفروضة علينا ولا نستطيع والحال كذلك تبرئة المطالبات بزوال الإعلام الرسمي. ومن جهة ثانية, فإن مهمة أخري من مهام السيادة علي مستوي الداخل لابد أن يضطلع بها إعلام الدولة, وهي الدفاع عن حضور القوة أو السلطة العليا في البلد ممثلة في الهيئات صانعة القرارات الملزمة لكل المواطنين والمؤسسات والجمعيات داخل حدود الدولة. ولما كانت قعدة الآرائك في تليفزيونات الإعلام الخاص, تستهدف ضرب( الهيئات صانعة القرارات الملزمة) بالاضافة إلي ترويج التوجهات الغامضة, وتعظيم مسببات التوتر الجماعي وإشاعة رقم لا بأس به من الحواديت السياسية والتهليل للقيادات الاسطورية الغامضة, فإننا نحتاج مرة أخري إلي إعلام الدولة لتحقيق حضور السلطة العليا داخل البلد ممثلة في الهيئات صانعة القرارات الملزمة. المعني واضح أمامنا.. حتي إشعار آخر. إعلام الدولة صيانة للسيادة وصناعة للقوة الإعلامية, وإعلام الشوارعيزم تصنيع للضجيج, وكشف للسيادة امام احتمالات جد خطيرة!