تبدو أفغانستان هذه الأيام علي أعتاب مرحلة جديدة تشهد تغيرات جذرية علي أرض الواقع, سواء علي صعيد المشهد السياسي أو العسكري أو الداخلي, حيث تتردد تقارير عن احتمال إبرام' مصالحة' تاريخية بين حكومة الرئيس حامد كرزاي والإدارة الأمريكية. من جانب وحركة طالبان المتمردة من جانب آخر, بعد أن أصبح واضحا أن واشنطن عازمة علي سحب قواتها من أفغانستان قبل عام2011 لا محالة, وأنها لا تزال حتي هذه اللحظة تفقد الثقة في قدرة كرزاي وحكومته علي إدارة الأمور بالشكل الصحيح بعد الانسحاب, بل ومن الآن. وبعد أن اضطرت الولاياتالمتحدة في' تجربة' العراق إلي قبول مبدأ الاستعانة ببعض البعثيين السابقين للعودة إلي المسرح السياسي لإنقاذ الموقف, بل إنها اختلفت مع الحكومة العراقية بشدة في العام الماضي بسبب إصرار واشنطن علي عودة هذه العناصر ذات الخبرة في الشئون السياسية والمدنية, أصبح لزاما علي واشنطن أن تفعل المثل في أفغانستان بمد يدها إلي طالبان المتحالفة مع القاعدة, وهما الخصمان اللدودان اللذان حلت القوات الأمريكية علي الأراضي الأفغانية في أواخر عام2001 للقضاء عليهما عقب هجمات سبتمبر! الفكرة مجنونة, ولكنها واقعية للغاية, وتعكس فشلا ذريعا للفكر العسكري الأمريكي الذي انتهجته الإدارة الأمريكية السابقة في العراق وأفغانستان في إطار ما يسمي الحرب علي الإرهاب, فمن حاربه جورج بوش الإبن في العراق وأفغانستان يستغيث به الرئيس الحالي باراك أوباما الآن لإتمام عملية سحب القوات الأمريكية من أرض المعركتين' علي خير', لأن الإبقاء علي نظام ضعيف, وخاصة في أفغانستان ستكون له عواقب وخيمة. والحديث عن صفقة محتملة بين كرزاي وطالبان كان يعتبر ضربا من الجنون قبل سنة أو اثنتين, ولكنه الآن حقيقة, أو ستصبح كذلك خلال أسابيع وربما أشهر قليلة, ومما يمهد لذلك حركة تغييرات واسعة النطاق في المناصب حدثت في الآونة الأخيرة بين المتحالفين الثلاثة الأبرز علي الساحة الأفغانية, سواء في الولاياتالمتحدة بإقالة الجنرال ستانلي ماكريستال, أو في بريطانيا بإقالة رئيس الأركان, أو حتي في أفغانستان بعد إطاحة كرزاي باثنين من أقوي رجاله وهما وزير داخليته حنيف الله أثمر, ورئيس المخابرات أمر الله صالح. هناك تحذيرات جمة مما يمكن أن تحدث بسبب هذه الصفقة, فصحيفة' نيويورك تايمز' أفزعت أوباما بتقرير ذكرت فيه أخيرا أن تحالف طالبان كرزاي المتوقع سيدفع أفغانستان إلي شفا حرب أهلية دموية لن يكون للقوات الأمريكية مكان فيها, إذ إن وصول طالبان إلي السلطة بشكل أو بآخر سيثير غضب القوميات الثلاث الرئيسية الأخري في أفغانستان بخلاف طالبان, وهي الأوزبك والطاجيك والهزارة, فضلا عن أقلية من البشتون المناوئين لطالبان. وأشارت الصحيفة إلي تصريحات صدرت عن قادة كبار في هذه القوميات أكدوا فيها استعدادهم لحمل السلاح فورا في حالة عودة طالبان إلي الحكم, ونظرا لأن هذه القوميات تشكل أكثر من نصف عدد سكان أفغانستان, فإن حربا أهلية كهذه ستكون أمرا لم يسبق له مثيل, ولن يكون بمقدور واشنطن ولا الناتو ولا كرزاي التعامل معها, أضف إلي ذلك أن إقالة ماكريستال قوضت ثقة المواطن الأفغاني العادي في حلف' الناتو' وقدرته علي الدفاع عن أمن البلاد, أو حماية كرزاي الذي سيصبح في هذه الحالة' شمعة' في مهب الريح بعد أن خسر ثقة حلفائه وزادت عزلته ومخاوفه بعد تخليه عن' أثمر' و'صالح', وهو يحاول من الآن تشكيل شبكة جديدة من الحلفاء للارتكان إليهم في حالة تعرضه لضغوط داخلية أو خارجية, وهؤلاء الحلفاء من بينهم: إيران وطالبان والموالون لطالبان في باكستان, والبشتون بصفة عامة. أما عن صفقة كرزاي طالبان نفسها, فالواقع أن من يدير الأمر هم الأمريكيون وليس كرزاي نفسه, وهو ما أكده ديفيد إجناشيوس في مقال له بصحيفة' واشنطن بوست' الأمريكية, حيث ذكر أن الجانبين يتحاوران حاليا كل مع نفسه بشأن تحديد شكل هذه المصالحة المقبلة وشروطها وكيف يمكن أن تحدث, مشيرا إلي أن كل طرف منهما يشعر بالإرهاق من كثرة الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها من جراء المعارك الأخيرة, ويريد كل منهما أن يستفيد قدر الإمكان من المصالحة في تقوية نفوذه والحصول علي وضع قوي في المرحلة المقبلة. وعلي الرغم من تأكيد إجناشيوس أن طالبان هي الأكثر تضررا, علي الصعيد النفسي من خسائرها الأخيرة, فإنها ما زالت الطرف الأقوي في المعادلة باعتبارها الطرف' الدائم' أي الذي سيبقي' في الصورة', بل إن طالبان يمكنها استخدام الحديث عن المصالحة كمناورة تكسب بها بعضا من الوقت وتلتقط أنفاسها لحين خلو الساحة لها بعد عام عندما تنسحب القوات الأمريكية من أفغانستان, لتنقض الحركة المتمردة بعد ذلك علي كرزاي إن كان لا يزال في السلطة. كل طرف أعلن شروطه الرئيسية: فطالبان يريدون أن يكون لهم دور ونفوذ في الحكم, فضلا عن الشرط الأساسي وهو خروج جميع القوات الأجنبية من البلاد, وهو شرط ذكي باعتبار أن خلو أفغانستان من القوات الأجنبية يعني بالضرورة أن طالبان ستكون أقوي الموجودين في أفغانستان, بينما تشترط الولاياتالمتحدة قطعا كاملا لعلاقات طالبان مع القاعدة, وربما التخلي عن أسامة بن لادن زعيم القاعدة صراحة, فضلا عن إلقاء السلاح, والخضوع للقوانين الأفغانية الحالية. وعلي الرغم من أن طالبان لا تعترض علي أي من هذه الشروط كما هو واضح من خلال الاعترافات التي استقتها المخابرات الأمريكية من قادة طالبان البارزين الذين تم اعتقالهم في الآونة الأخيرة وتحدثوا عن تفاصيل بشأن ما يفكر فيه قادتهم الأرفع شأنا فإن واشنطن ما زالت متشككة حتي هذه اللحظة من رغبة طالبان في تحقيق مصالحة حقيقية, بدليل ما ذكره ليون بانيتا مدير المخابرات الأمريكية من أنه لم يعثر حتي الآن علي دليل يؤكد وجود مصلحة لطالبان من هذه المصالحة, نظرا لعلمهم بأن الساحة ستخلو لهم بعد عام وأنهم ما زالوا حتي الآن هم الطرف الأقوي, فضلا عن معلومات أخري تفيد بأن الملا عمر نفسه غير راغب في المصالحة التي ستقوض صورته أمام أتباعه الذين سيرون فيه قائدا يتحالف مع الأعداء. ومع ذلك, فاحتمالات المصالحة أيضا قوية, خاصة أن البشتون يعتبرون في ثقافتهم أن المصالحة ممكنة مع' الأعداء' إذا كانت القوة متكافئة بين الطرفين, وهو ما يمكن أن يوجد مخرجا للملا عمر من هذا المأزق, ويدفعه إلي التصالح مع' الأعداء'. ولا ننسي أن فكرة تصالح الأمريكيين مع طالبان هي الأخري' قاسية' وتنطوي علي مخاطرة لأنه أشبه بفكرة الاستعانة ب'الشيطان'! [email protected]