مضت أيام وسليمان زائغ العينين لا يتكلم, الطبيب كان أخبر مدير المكتب أن يمنحه إجازة يعود فيها إلي مصر لكي يستريح ويستعيد نفسه. أمس الأول كنت ذهبت إلي المستشفي لرؤيته, ورغم أننا كنا وجدنا فإنه لم يرد علي تحيتي ولم يعرفني, وعندما اقتربت منه حدق في بريبة وانكمش إلي آخر الفراش. الممرضة الشابة قالت إنه منذ جاء لم ينطق بكلمة, وأنا فكرت ولم أتمكن أبدا من تصور السبب الذي جعله يصبح هكذا. 2 ما أن دخلت المكتب حتي وجدتهم يجتمعون حول رجل نحيل له لحية قصيرة بيضاء. أخبروني أنه الشيخ رضوان صديق سليمان وحارس بساتين البرتقال في وقف الأميرة شويكار, والشيخ الشاب هب واقفا وهو يقول: أنت الأخ عبدالله. أنا عارفك. صافحته وجلست.. وهو تهيأ وقال إن الحكاية حدثت فجأة ولم تكن متوقعة. كان سليمان قد مر علي مثلما كان يفعل كثيرا, حدائق الوقف في منتصف الطريق تقريبا بين القرية الأولي والأخيرة. هكذا يمر نشرب الشاي ويسمعني أبياتا من شعره ونحن تحت الأشجار حتي يستريح وينصرف. حينئذ انتهي عبدالغفار من لف السيجارة وناولها إلي الشيخ رضوان وقال ما رأيك يا فضيلة الشيخ إن أحدا من الذين يجلسون معك الآن لم يسمع بيتا واحدا من هذا الشعر. رحنا نضحك بينما قال الشيخ إن سليمان شاعر جميل ولكنكم تهزءون من شعره قبل أن تسمعوه, وبلل طرف السيجارة بطرف لسانه وراح يعيد لصقها وقال إن سليمان ركب الحمار وانصرف في هذا اليوم كما اعتاد, إلا أنه فوجئ بعد قليل بضجة خارج السور وعدد من عمال الطرق يدخل وهم يحملون سليمان والحقيبة الجلدية علي صدره والجميع غارق في الماء. يقول الشيخ إنه لم يعرف ماذا جري لسليمان. ولكنهم, علي أية حال, خلعوا عنه ثيابه الحكومية وقاموا بتجفيفه وألبسوه جلبابا من الكستور وجعلوه يستريح علي الدكة وأن سليمان استغرق تماما في النوم. وبعد ذلك جلس هو مع عمال الطرق يشربون الشاي ويتحدثون. قالوا إنهم كانوا في الجانب الآخر من الطريق يقومون بعملهم( كل واحد منهم يمسك حبلا طويلا في نهايته دلوا صغيرا يقذف به إلي المصرف ثم يسحبه ممتلئا بالماء ويقوم برش هذا الماء علي التراب والناس تمشي عليه هي والحيوانات والتراب يتماسك) كانوا مشغولين بذلك بينما غادر سليمان الحدائق وتقدم في السكة الضيقة الموازية لهذا الطريق. بعد ذلك خرج الذئب الكبير وقطع عليه السكة ووقف يلهث ولسانه مدلي من فمه المفتوح. يقول الشيخ رضوان إن سليمان لم يعرفه وربما ظنه كلبا. ولكن إذا كان سليمان لم يعرف الذئب فإن الحمار عرفه فورا, وتشبث بقوائمه وتقوس ظهره وأصدر نهيقا هائلا التفت عمال الطرق علي أثره ليروا الحمار يندفع محلقا وسليمان يعتليه ليسقط الجميع في ماء المصرف, وهم أسرعوا خلصوا سليمان وحقيبته من تحت الحمار الذي أسرع يتسلق الشاطئ ويظل يعدو حتي عاد علي هنا. 3 قال الشيخ رضوان إن سليمان ظل نائما حتي آخر النهار, وإنه اضطر ينبهه, وعندما قام وجده ينظر إليه مستنكرا, لا يرد عليه, ولا يعرفه. حينئذ اتصلوا من تليفون العمدة بحضرة المدير الذي تصرف مع المستشفي الذي أرسل عربة, وفي اليوم التالي أخرج محتويات الحقيبة وجففها في الشمس, وجاء الآن ليعيدها. عندما خرجنا في وداع الشيخ قال إن سليمان كان يحدثه عني كثيرا, ولكن الشيء الذي يدهشه, أن الحمار عندما هرب من موقع الحادثة عاد وحده إلي المكتب وظل واقفا, مع أن المفروض أنه كان يلجأ إلي حديقة البرتقال باعتبار أنه حماري. وأنا سألت: هو الحمار بتاعك؟ طبعا.. المكتب كله عارف إنه مأجره مني. وأضاف.. علي العموم لما ربنا يأخذ بيده ويرجع يتكلم, أنا والحمار, تحت أمره. وطلع بقدمه علي السور القصير, ورفع الأخري. وربت بيده علي رقبة الحمار وانصرف. وللكلام بقية.. المزيد من مقالات إبراهيم اصلان