عاصرت أربع حروب خاضتها مصر, فكنت شاهدا مع أبناء جيلي علي زيف نظرية الشعب غير المحارب, التي ألصقها بالمصريين من زيفوا تاريخ مصر; فصدقهم الجاهلون! وأتذكر أنه عشية حرب المصريين ضد العدوان الثلاثي كنت قد التحقت توا بالمدرسة الابتدائية في السويس,. وخلال عدوان1967 علي مصر كنت بالصف الثاني الثانوي بأسوان, وإبان حرب الاستنزاف كنت طالبا بجامعة القاهرة, وأما خلال حرب أكتوبر1973 فقد كنت مجندا بالقوات المسلحة. وأعترف بأنني شأن الكثيرين من أبناء جيلي لم أستوعب ترحيب المصريين بمبادرة السادات بالسلام, وإن أدركت لاحقا حكمة أن يرحب الشعب المصري المحارب بالسلام بعد أن حررت مصر بالحرب وبكل أساليب النضال كامل تراب مصر الوطني. وبحديث السلام, أبدأ فأقول إنه تحت قيادة مبارك كان أن تحقق لمصر, بفضل إصراره, جلاء آخر جندي وآخر مستوطن وتحرير آخر شبر محتل, بعد أن رفض كل مناورات ومماطلات اسرائيل عقب جريمة اغتيال السادات, حين حاولت التنصل من تنفيذ ما نصت عليه معاهدة السلام من الانسحاب الي حدود مصر الدولية, وحين حاولت اختطاف طابا من مصر. وكانت معركة طابا خصوصا ذات دلالة تاريخية, إذا تذكرنا أزمة طابا الشهيرة في عام1906, حين أرسلت تركيا قوات لاحتلال رأس طابا وأعلنت أن شبه جزيرة سيناء كلها أرض عثمانية, فأعلن زعيم- لا جدال في وطنيته- وهو مصطفي كامل تأييده لحقوق تركيا علي سيناء, وكتب مصطفي يقول أن حادث طابا خلاف بين دولة محتلة هي انجلترا والدولة صاحبة السيادة علي مصر.. وهي تركيا! وأما عن حديث الحرب, فأتذكر أنني قد انفعلت مع أقراني من الأطفال بمشهد المتطوعين من المدنيين, يرتدون الكاكي ويرصون شكائر الرمال ويحملون السلاح علي مداخل حارات وشوارع حي الأربعين بالسويس, فكان أن شاركت وأقراني, تحت قيادة' صبية' لم يبلغوا سن حمل السلاح, في حرق دمية' موشي ديان' صنعها الأخيرون بحشو' بيجامة قديمة' بالقش, مرددين وراءهم الأغاني الشعبية الوطنية, التي نظمت ضد أنتوني إيدن وبن جوريون وجي موليه, زعماء الدول المعتدية علي مصر, وعن قناة السويس التي' ليست في أراضيهم' والتي كان تأميمها قنبلة' وانفجرت فيهم'! وأعرف أن منكوبي العهد الناصري والذين تؤرقهم أشباحه ومنظري العولمة الجدد, لا يترددون في الانتقاص من الانتصار السياسي لمصر والمصريين في معركة' السويس', لكنه نصر لمن يفقهون مجيد! استردت بفضله مصر حقوقها في القناة وسيادتها علي أرضها وعززت استقلالها. وأما عدوان اسرائيل علي مصر في عام1967, وإن ترتبت علي مقدماته هزيمة عسكرية, فقد بعث إصرار المصريين علي إزالة آثاره أمجاد الشعب المصري المحارب مجددا! وبعد أن خرجنا في مظاهرة عفوية نهتف برفض الاستسلام في يومي9 و10 يونيو, تطوعت غداة الهزيمة مباشرة مع غيري من طلاب المرحلة الثانوية بأسوان في الدفاع المدني, وكان أن حملت مع زملائي بنادق لي أنفيلد, لا أتذكر أننا قد تدربنا عليها, وتوزعنا حول أبراج نقل كهرباء السد العالي لحمايتها من أي تهديد! وهناك علي الجبهة كانت الجهود تسابق الزمن لإعادة بناء القوات المسلحة, خاصة القوات الجوية, التي نقل محافظنا مدكور أبو العز ليكون قائدا لها علي رأس قادة جدد, كان بينهم الرئيس مبارك بعد أن صارت الكفاءة القتالية والوطنية المصرية والقدرة القيادية معايير اختيارهم! وخلال حرب الاستنزاف في عامي1968 و1969, وبعد معركة رأس العش الباسلة, التي دحرت محاولة اسرائيل مواصلة التوسع في سيناء, كنت وزملائي بجامعة القاهرة وغيرها من الجامعات نتابع أخبار إغراق أبطال القوات البحرية المصرية للمدمرة الاسرائيلية إيلات في ضربة فريدة ورائدة في تاريخ القوات البحرية, وعمليات العبور الجسورة للقوات البرية والخاصة الي عمق سيناء, وقصف المدفعية لضرب قوات العدو في سيناء, وأسبوع تساقط الفانتوم في معارك الدفاع الجوي الظافرة, وغير هذا من عمليات التمهيد والتطعيم لخوض المعركة القادمة الفاصلة. وقد دمرت بيوت والدتي وأخوالي وخالاتي بالسويس نتيجة الردود الاسرائيلية الإجرامية بقصف المدنيين والمنشآت المدنية. ولأننا لم نكن ندرك مغزي الوفاق السوفيتي الأمريكي, ولم نعرف شيئا عن المماطلة السوفيتية في توفير ما تحتاجه مصر من سلاح لازم للمعركة, فقد شاركت مع زملائي في الحركة الطلابية الوطنية التي شكلت جماعات مناصرة الثورة الفلسطينية وتعجلت قرار خوض مصر حرب التحرير الوطنية! وقد كان عبور القاذفات المصرية فوق منطقة العين السخنة, حيث كان موقع قوة المشاة الميكانيكية التي خدمت بها, إعلانا ببدء حرب التحرير في أكتوبر..1973وشأن مصر التي تصور أصدقاؤها قبل أعدائها أنه لن تقوم لها قائمة بعد هزيمة يونيو, كان بدء الحرب بشن الضربة الجوية الجسورة بقيادة مبارك يحمل دلالة ترمز لمصر بأسرها, إذ تقوم جبارة ذات بأس لتثأر لنفسها وللقوات المسلحة, بعد أن ظلمت بسوء التقدير وغياب التخطيط وقصور التدريب وبؤس القيادة في حرب يونيو, فأعلنت هزيمتها في حرب لم تخضها! والأمر أن مبارك في معركة طابا كان يجسد عودة الوعي بالوطنية المصرية, الذي يعمل البعض علي تغييبه مجددا بعد أن تحرر بصعوبة من أوهام الولاء لدولة الخلافة الاسلامية, ثم تحرر بعدها من أعباء زعامة الدعوة للقومية العربية! وكان حفاظ مبارك علي السلام وحفظه لحدود مصر, التي عينت قبل نحو خمسة آلاف عام من رفح الي حلفا, إدراكا حكيما لواجب الحاكم الوطني. وأما دفاع مبارك عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني, ورفضه كل ألوان الضغط والإغراء لضرب ليبيا, وموقفه ضد مؤامرات احتلال العراق وتقسيم السودان وتفكيك اليمن, ثم سعيه الراهن لحماية حقوق مصر في مياه النيل بالحوار, فانه إدراك واع للأبعاد الإقليمية للأمن القومي المصري, في دائرة تحددت منذ فجر التاريخ, ورسمتها بأساليب زمنها الإمبراطورية المصرية بعد دحر الهكسوس! وعود علي بدء الي حديث السلام, أقول للمتطاولين علي مصر وزعامتها, والساعين الي توريطها في حرب تهدر ما حققته أرواح أكثر من مائة ألف شهيد من أجل التحرير, أن مصر- شعبا وقيادة- لن يزعزع يقينها في خيار السلام مزايدون أو مغامرون أو متآمرون, بعد أن خاضت دون غيرها أربع حروب خلال أقل من عقدين! والأمر ببساطة أن مصر تعرف متي تخوض الحرب, كما تعرف كيف تصنع السلام. وشعب مصر المحارب, الذي خاض أول حركة تحرر وطني في التاريخ بدحر الهكسوس, وعزز أمنه القومي بتأسيس أول امبراطورية في التاريخ بعد معركة مجدو, هو ذاته الذي وقع قائده أول معاهدة سلام في التاريخ مع الحيثيين! وشعب مصر المحارب الذي قاد حركة التحرر الوطني العالمية المعاصرة, وعبر ما بدا مستحيلا حربا وسلاما بنصر أكتوبر, هو ذاته الذي حافظ علي السلام الراهن. لكنه سواء في التاريخ القريب أو في التاريخ البعيد فان مصر لم تتخل عن واجبها في تعزيز أمن محيطها العربي بأقصي ما تتيحه موازين القوي الدولية, وتدرك أن تعظيم قدراتها الاقتصادية والشاملة هو ركيزة الأمن والسلام في المنطقة. ولكن بين مصر القديمة ومصر المعاصرة تبقي ضرورة دحض نظرية أن المصريين كانوا شعبا غير محارب, منذ حملة الإسكندر وحتي حملة نابليون.. ولهذا فان للحديث بقية! المزيد من مقالات د. طه عبد العليم