لإنهاء أزمة انقطاع الإنترنت.. توصيل 4000 خط تليفون جديد بالجيزة (تفاصيل)    انقطاع الكهرباء عرض مستمر.. ومواطنون: «الأجهزة باظت»    الكنائس تخفف الأعباء على الأهالى وتفتح قاعاتها لطلاب الثانوية العامة للمذاكرة    أخبار × 24 ساعة.. "التعليم" تعلن نتيجة الدور الأول للطلبة المصريين فى الخارج    بسبب عطل فني.. توقف تسجيل الشحنات ينذر بكارثة جديدة لقطاع السيارات    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 27 يونيو 2024 في البنوك (التحديث الأخير)    الحكومة تحذر من عودة العشوائية لجزيرة الوراق: التصدى بحسم    أصحاب ورش باب الشعرية: إنتاجنا تراجع 40٪.. واضطررنا لتسريح عُمّال    عاجل - بعد الانقلاب العسكري.. رئيس بوليفيا يوجه رسالة أخيرة ل الشعب    شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي لمدرسة تؤوي نازحين شرق خان يونس    إجراء جديد من جيش الاحتلال يزيد التوتر مع لبنان    سوريا.. استشهاد مدنيين اثنين وإصابة جندي بجروح جراء قصف إسرائيلي جنوب دمشق    تعرف على الطريق إلى نهائي «يورو 2024» ومواعيد المباريات    أحمد عبد الغني: أرفض رحيل هداف حرس الحدود ل الأهلي أو الزمالك    ميدو: الزمالك بُعبع.. «يعرف يكسب بنص رجل»    خالد الغندور: «مانشيت» مجلة الأهلي يزيد التعصب بين جماهير الكرة    انتهت.. الأهلي يضم يوسف أيمن من الدحيل القطري (خاص بالتفاصيل)    شوبير يكشف مفاجآت في شكل الدوري بالموسم الجديد    هيئة الدواء المصرية تستقبل وفد الشعبة العامة للأدوية باتحاد الغرف التجارية    مصرع طفل وإصابة شخصين في انهيار حائط بأسيوط    بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم.. والأرصاد الجوية تكشف موعد انتهاء الموجة الحارة    «نجار» يبتز سيدة «خليجية» بصور خارجة والأمن يضبطه (تفاصيل كاملة)    نجاة 43 أجنبيا ومصريًا بعد شحوط لنش فى «مرسى علم»    3 أبراج تتوافق مع «العذراء» على الصعيد العاطفي    «الوطنية للإعلام» تعلن ترشيد استهلاك الكهرباء في جميع منشآتها    أبطال مسرحية «ملك والشاطر» يقرأون الفاتحة قبل دقائق من بداية العرض (فيديو)    «مسيطرة همشيك مسطرة».. نساء 3 أبراج يتحكمن في الزوج    بمشاركة رونالدو.. منتخب البرتغال يسقط أمام جورجيا في كأس أمم أوروبا 2024    قانون جديد يدعم طرد الأجانب الداعمين للإرهاب في ألمانيا    جورجيا تحقق فوزا تاريخيا على البرتغال وتتأهل لدور ال16 فى يورو 2024    البابا تواضروس يتحدث في عظته الأسبوعية عن مؤهلات الخدمة    تنسيق الجامعات 2024.. تعرف على أقسام تمريض حلوان لطلاب الثانوية    الاستعلام عن شقق الاسكان الاجتماعي 2024    انتهت بالتصالح.. كواليس التحفظ على سعد الصغير بقسم العجوزة بسبب "باب"    السيطرة على حريق نشب داخل ورشة أخشاب في بولاق الدكرور    بينهم طفل وشاب سعودي.. مصرع 3 أشخاص غرقا في مطروح والساحل الشمالي    نشأت الديهي: هناك انفراجة في أزمة انقطاع الكهرباء    موظفو وزارة الخارجية الإسرائيلية يهددون بإغلاق السفارات    عاجل - مرشح رئاسي ينسحب من الانتخابات الإيرانية قبل انطلاقها بساعات..مدافع شرس عن الحكومة الحالية    دوري مصري وكوبا أمريكا".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    تعرف على سبب توقف عرض "الحلم حلاوة" على مسرح متروبول    حدث بالفن | ورطة شيرين وأزمة "شنطة" هاجر أحمد وموقف محرج لفنانة شهيرة    «30 يونيو.. ثورة بناء وطن».. ندوة في قصر ثقافة قنا للاحتفال بثورة 30 يونيو    محافظ بني سويف يكلف التأمين الصحي بتوجيه فريق طبي لفحص سيدة من ذوي الهمم    حكم استرداد تكاليف الخطوبة عند فسخها.. أمين الفتوى يوضح بالفيديو    سماجة وثقل دم.. خالد الجندي يعلق على برامج المقالب - فيديو    بالفيديو.. أمين الفتوى: العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة عليها أجر وثواب    نقابة الصحفيين تتقدم بطلبات للنائب العام حول أوضاع الصحفيين في الحبس    في اليوم العالمي لمكافحة المخدرات- هل الأدوية النفسية تسبب الإدمان؟    القوات المسلحة تنظم مؤتمراً طبياً بعنوان "اليوم العلمى للجينوم "    إقبال طلاب الثانوية العامة على مكتبة الإسكندرية للمذاكرة قبل الامتحانات|صور    بتكلفة 250 مليون جنيه.. رئيس جامعة القاهرة يفتتح تطوير مستشفي أبو الريش المنيرة ضمن مشروع تطوير قصر العيني    إسلام جمال يرزق بمولود.. اعرف اسمه    كيف يؤدي المريض الصلاة؟    الكشف على 2450 مواطنًا وتقديم الخدمات مجانًا بقافلة القومى للبحوث فى أطفيح    هل يجوز الرجوع بعد الطلاق الثالث دون محلل؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    ميناء دمياط يستقبل سفينة وعلى متنها 2269 طن قمح    بدء جلسة البرلمان بمناقشة تعديل قانون المرافعات المدنية والتجارية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
موسم التعليم فى مصر !!
نشر في الأهرام اليومي يوم 26 - 06 - 2010

لكل شيء في مصر مواسم سياسية يرتفع فيها نبض الحديث السياسي عن الأمر‏,‏ وعادة ما يكون الموسم مرتبطا بكارثة أو حدث جلل‏;‏ إلا التعليم وحده الذي يكاد يكون موضوع كل المواسم‏.‏ وهو يأتي إلي الذكر علي سبيل الحكمة عندما يقرر مكتشف لحقيقة الحقائق أن الدول الأخري تقدمت بسبب العلم والتعليم‏;‏ ولسبب غير معروف كان ذلك هو ما يقال علي سبيل اليقين في كل مرة تأتي فيها سيرة اليابان أو أي من الدول الآسيوية‏.‏ ولكن التعليم أيضا يأتي علي سبيل التقريع للحكومة إما لأنها لا تعطي للمسألة الاهتمام الكافي أو لأنها لا ترصد الموازنات الكافية‏;‏ وكم من مرة وجد سياسيون في التشهير بالحالة التعليمية في مصر والمرتبة التي وصل إليها دليلا علي التخلف وتردي الأوضاع إلي درجة غير مسبوقة في تاريخ البلاد‏.‏ وكم من مرة وجد هذا السياسي أو ذاك في اختفاء الجامعات المصرية من قائمة الجامعات الخمسمائة الأكثر تقدما دليلا علي تلك الحالة المأساوية التي تعيشها المحروسة‏.‏ وفي كل مرة ينشر فيها تقرير التنمية البشرية في العالم يغلي الدم في عروق المصريين لأن مكانتهم في الدنيا لا يرضي عنها عدو ولا حبيب‏,‏ وهي النتيجة المنطقية لحالة التعليم والأمية في الدولة‏.‏ ومن كثرة الحديث عن مواسم التعليم في مصر سوف تجد عجبا في أمر استمرار الحال علي ما هي عليه رغم سيل البراهين علي أنه مفتاح التنمية والتقدم المصري‏.‏
ولكن للتعليم علي أي حال موسما يصير فيه الحديث أكثر حدة‏,‏ ويأتي عادة بين شهري يونيو ويوليو من كل عام عندما تبدأ الامتحانات العامة‏,‏ خاصة امتحانات المرحلة الثانوية‏,‏ وتظهر نتائجها الحلوة والمرة معا‏.‏ في هذا الموسم تتغير أحوال المصريين‏,‏ فينطقون بما يخالف ما قالوه طوال العام‏,‏ ويصمت المفكرون والساسة وكأن الأمر كله لا يعنيهم حتي يمر الموسم الصعب في الكلام وتبقي دائما مواسم سهلة تصلح لكل حديث في الموضوع‏.‏ ويقع المشهد الافتتاحي مع بداية موسم الامتحانات حيث تجري كل محاولات الأهالي في اتجاه الغش الجماعي للطلاب‏,‏ ومع الفشل في هذا المشهد أو ظهور نتائجه المحدودة يبدأ فورا المشهد الثاني بالبكاء علي صعوبة الامتحانات وأن المطلوب إما إعطاء الطلبة امتحانات يضعون أسئلتها هم بالتشاور مع من يعطيهم الدروس الخصوصية أو إعطاؤهم الأسئلة ومعها الإجابات قبل الامتحان بفترة كافية‏.‏ وهنا يأتي المشهد الثالث الذي لا يخلو من طرافة حيث تنطق الجهات الحكومية المعنية قائلة إن الامتحانات تناسب الطالب المتوسط‏,‏ أو أنها سهلة وناعمة وحتي من داخل الكتاب المقرر‏,‏ وأن النسبة الساحقة من الطلبة قد أجابت الإجابات الصحيحة وبنسب لا توجد في دول متقدمة‏,‏ ولو كانت هذه النسب تعبر بالفعل عن الواقع لكان أولادنا من العباقرة‏.‏ ومن بعد هذا المشهد الهزلي تبدأ المساومة حيث يطالب الأهل بحذف بعض الأسئلة التي صعبت الإجابة عليها‏;‏ ومن بعدها تظهر النتائج المذهلة لتلاميذ ليس لهم مثيل في المعرفة والإبداع‏,‏ إذ يتعدون أحيانا نسبة‏100%‏ من المجموع‏.‏
الغريب في الأمر أنه خلال ذلك كله لا ينطق أحد‏,‏ ولا يعلق سياسي أو مفكر عن عوج الحال‏,‏ ولأن الأمر لا يجري هكذا إذا كنا نريد تعليما جادا‏,‏ وليس تعليما مريحا يسهل البكاء والضحك عليه في نفس الوقت‏.‏ هل هو التملق والسعي إلي الشعبوية وتجنب ما يغضب الناس لأن ذلك أولي الحلقات في المأساة حيث تكون النتيجة خريجين لا يصلحون لسوق العمل‏,‏ فيتم البكاء والتباكي بعد ذلك علي البطالة‏,‏ ومنها يتم العويل علي ضرورة تعيين المزيد من الخريجين في الحكومة والمؤسسات العامة مادام القطاع الخاص سوف يجد أنه من البلاهة تعيين هؤلاء التي ساعة تعاملها مع الجمهور لا يجد أمامه إلا السخط لأن الخدمات إما أنها لا تقدم أو أنها تقدم ناقصة أو فاسدة أو فيها في كل الأحوال ما يكفي من الإحباط والغضب‏.‏ ولن تندهش ساعتها عندما لا تجد ناجحا إلا‏15‏ شخصا فقط من إجمالي‏900‏ تقدموا لاختبارات وظيفة ملحق دبلوماسي بوزارة الخارجية‏,‏ وتضمنت الاختبارات التحريرية مواد القانون الدولي والعلاقات السياسية الدولية والاقتصاد السياسي والنظم السياسية العربية والأفريقية فضلا عن اللغات الأجنبية‏,‏ رغم أن بعضهم تخرج فيما يطلق عليه كليات القمة لكنها تمثل في الواقع كليات القاع‏.‏
هل هذه هي دائرة التخلف الجهنمية التي يصمت عليها الجميع ولا يريد كسرها أحد وهي التي أصبحت علي حد قول الوزير أحمد زكي بدر مؤسسات لإنتاج الجهلاء؟ وهل يصح أن يكون ذلك في بلد اعتبر التعليم حقا دستوريا حيث ذكرت المادة الثامنة عشرة من الدستور أن التعليم حق تكفله الدولة‏,‏ وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية‏,‏ وتعمل الدولة علي مد الإلزام إلي مراحل أخري‏,‏ وتشرف علي التعليم كله‏,‏ وتكفل استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي‏,‏ وذلك كله بما يحقق الربط بينه وبين حاجات المجتمع والإنتاج‏.‏ وهل يجوز ذلك بينما الإنفاق العام علي التعليم يتصاعد عاما بعد عام حيث بلغ إجمالي الإنفاق علي التعليم‏33‏ مليارا و‏100‏ مليون جنيه في العام الحالي بزيادة‏3‏ مليارات و‏400‏ مليون جنيه عن نفس الفترة من العام المالي السابق بنسبة زيادة‏11.5%.‏ حيث كانت الدولة تنفق علي التعليم نحو‏30‏ مليار جنيه‏,‏ وهو ما لا يتجاوز‏4%‏ من إجمالي الناتج القومي‏.‏
صحيح أن مثل هذا الحجم من الإنفاق أقل كثيرا مما يجب‏,‏ ولكن السؤال هنا هل استثمرنا هذا القدر الصغير كما يجب‏,‏ وهل حاولنا أن نزيده بوسائل لاتخل بتوازن الموازنة العامة في علاقاتها بالاحتياجات المختلفة للمجتمع‏.‏ والشاهد هو أننا لم نحاول الأولي‏,‏ ولم نسع إلي الثانية‏,‏ فالمشاهد السابقة تقطع بأننا نريد تمثيلا تعليميا بين طلبة يحضرون أحيانا إلي المدارس‏,‏ ومدرسين يدرسون عندما يتفرغون من مراكزهم المتخصصة‏,‏ ومدارس غير مؤهلة لتأهيل عاملين في سوق العمل‏.‏ وعندما تضع كل ذلك في تركيب واحد سوف تجد هذا السيناريو الذي يجري كل عام في دقة غريبة‏,‏ وهي أن الجمهور يريد تمثيلية للامتحانات‏,‏ والحكومة في العادة ليس لديها مانع من أن تأخذ دورها هي الأخري بالطريقة التي تجعلها تأخذ دور الوالد الرحيم العطوف في نهاية الأمر‏.‏
وليس بمثل هذه الطريقة تبني الأمم‏,‏ وإذا كنا نريد حقا أن نجعل التعليم حجر الزاوية في نهضة البلاد باعتباره أساس التنمية ومركز الفكرة الديمقراطية حيث لا مكان لكليهما دون معرفة‏,‏ فإن ذلك لن يتم إلا من خلال فكر متسق يجعل المدارس جادة‏,‏ والعملية التعليمية جادة‏,‏ وعملية اكتساب المهارات والمعارف جادة‏,‏ والامتحانات وقياس القدرات جادة لا تدليل فيها ولا تراجع‏.‏ وقد أحسن وزير التربية والتعليم عندما وقف أمام الهجمة الاجتماعية المسلحة بصور البكائين من الطلبة في وسائل الإعلام‏,‏ وفوق ذلك فإنه قام بمجموعة من الإجراءات التي تضيف محسنات للسياسة التعليمية عندما قام بتوقيع اتفاق بين وزارة التربية والتعليم ووزارة الثقافة لتأسيس أمانة فنية بالتعاون بين الوزارتين لدراسة المقترحات التي من شأنها نشر ثقافة التذوق الجمالي بين تلاميذ المدارس‏,‏ والاهتمام بالمدارس ذات الشكل التراثي ومنها المدارس في القصور القديمة‏.‏ وتنقية مناهج التعليم لتتضمن قيم الولاء والانتماء وحقوق المواطنة‏,‏ من خلال توقيع مذكرة تفاهم مع السفيرة مشيرة خطاب وزيرة الدولة للأسرة والسكان والدكتور محمود الطيب رئيس جامعة حلوان‏,‏ بهدف تطوير مناهج التعليم في مراحل التعليم الأولي‏.‏ وقد برز هذا المعني أيضا في حضور الوزير لإحدي جلسات ونقاشات المجلس الأعلي للثقافة ورغبته في تحويل كلمة مواطنة الواردة في بعض المقررات التعليمية إلي يقين في ذهن ووعي الطالب‏,‏ والاستماع لوجهات النظر المختلفة‏.‏ وكل ذلك مع إيلاء أهمية كبيرة للملاحظات الواردة والتعديلات المقترحة من د‏.‏علي جمعة مفتي الديار المصرية بحيث تكون المناهج الجديدة للتربية الدينية الإسلامية في جميع الصفوف داعية للتسامح والتأكيد علي السماحة في الدين والبعد عن التطرف والعنف‏.‏ والتوجه من النظام التقليدي إلي النظام التربوي الحديث‏,‏ عبر تحديث البنية التحتية التكنولوجية في جميع مدارس الجمهورية‏.‏
ولكن كل ذلك علي أهميته لا يكفي لنهضة تعليمية حقة لا تبدأ ما لم يتم تغيير الذهنية المرتبطة بالتعليم وتجعل جل المقاصد في حصول الطالب علي الشهادة الجامعية أو غيرها ودون اختبار حقيقي من السوق الاقتصادية والاجتماعية‏,‏ وببساطة يقضي علي تلك المفارقة ما بين التفوق الزائف في العملية التعليمية ومدي القدرة علي العمل والإنتاج والإبداع والمساهمة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للوطن‏,‏ وكلها تحدد في النهاية إمكانية العمل والتوظيف أو الانضمام إلي طابور البطالة الطويل‏.‏ ورفع هذه المفارقة لا يكون إلا بقدر أكبر من الشجاعة والمصارحة مع الذات في تقييم المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية المصرية ليس من خلال التقارير البيروقراطية‏,‏ أو الامتحانات التي تصلح للطالب المتوسط‏,‏ وهو التعبير الرشيق للطالب الذي لا يعرف الكثير‏,‏ وإنما من خلال ساحة العمل الفعلية‏.‏ وكما يوجد لدينا تقرير سنوي للتنمية البشرية في البلاد‏,‏ فلماذا لا يكون لدينا تقرير سنوي أيضا يحدد أين يذهب خريجو الجامعات والمعاهد المختلفة بعد تخرجهم لكي يكون مرشدا‏,‏ ونذيرا أيضا‏,‏ للطلبة حال استعدادهم للدخول للمرحلة التالية من التعليم أو الخروج إلي ساحة العمل؟‏.‏
ومع زوال المفارقة بين الزيف والحقيقة‏,‏ فإننا سوف نضيف الكثير إذا ما جري التمييز بين المحافظات المختلفة من حيث السياسة التعليمية‏,‏ فربما كان واحدا من أهم أسباب القصور فيها أنها تنظر لمصر كلها نظرة مركزية واحدة ما يصلح فيها لمدينة بورسعيد التي تقع علي قمة محافظات مصر من حيث مؤشرات التنمية البشرية‏,‏ ومحافظة المنيا‏,‏ ومحافظات الصعيد عامة‏,‏ حيث ترتفع معدلات الفقر‏.‏ وفي الأولي‏,‏ حيث الدخول ومستويات المعيشة وتعليم الآباء أعلي في العموم‏,‏ فإنهم سوف يكونون أكثر استعدادا لتمويل عملية التنمية مما هي الحال في المحافظات الأقل حظا‏.‏ وهنا تحديدا يمكن أن توجه موارد الدولة حيث تكون هناك حاجة أكبر إليها سواء بانتشار الأمية أو ضعف التعليم لأسباب مادية معنوية مختلفة‏.‏ ومثل هذا التمييز لا يكون علي أساس من القدرة المادية والبشرية فقط‏,‏ وإنما أيضا حسب الاحتياجات المختلفة التي تجعل محافظات السواحل تختلف عن محافظات البر والصحراء‏,‏ وكل ذلك غير الحواضر الكبري مثل القاهرة‏.‏
الفكرة هنا هي أن الحوار الذي يدور في مصر حول مجانية التعليم يسير في الاتجاه الخاطئ حينما يجعل الاختيار واقعا ما بين تعليم مجاني يكون منتجا لمنتج ضعيف الأجر‏,‏ وهو تعبير آخر للمجاني أيضا‏;‏ وبين تعليم يقوم علي التمييز ما بين الغني والفقير‏.‏ والعجيب أن هذا الحوار أدي فعليا إلي تحقيق هذا التمييز رغم مخالفته الدستورية الواضحة لجعل التعليم حقا من حقوق الإنسان والمواطنة حيث صارت الدروس الخصوصية من نصيب القادرين ومحروما منها الفقراء‏,‏ وجاءت الجامعات الخاصة لكي توضح الفارق من ناحية الفرصة التعليمية وبجانبها فرصة العمل‏,‏ وعندما وجدت الحكومة أنها لا تستطيع تجاوز الواقع العقيم قامت بإنشاء القطاع الخاص داخل القطاع العام عندما أنشأت أقسام اللغات في الجامعات المصرية فحصل خريجوها علي نصيب من كعكة العمل بينما بقي الآخرون من خريجي اللغة العربية في صفوف البطالة‏.‏
والحقيقة أن مثل هذه السوق التعليمية لا تؤدي إلا إلي التمييز بين المواطنين‏,‏ بينما التفرقة ما بين المحافظات الأكثر ثروة‏,‏ وتلك الأقل حظا‏,‏ تجعل دعم التعليم يذهب فعلا إلي الفقراء من المحافظات التي تحتاج إلي مزيد من الإنفاق الحكومي‏.‏ وبالتأكيد لن تكون الصورة في الواقع بمثل هذا الوضوح والصفاء‏,‏ فهناك دائما ألوان رمادية بين الأبيض والأسود‏,‏ ولكن حلها يكون بإعطاء المزيد من المرونة لسد الفجوات المتعددة من خلال القروض الطلابية التي تسدد علي مدي زمني طويل‏,‏ وإذا كان هناك مجال للرهن العقاري فلماذا لا يكون هناك مجال آخر للرهن التعليمي‏.‏ ومن المرونة أيضا إعطاء فرص أكبر للمجتمع الأهلي‏,‏ والمبادرات الفردية‏,‏ ومجالس أمناء الجامعات القادرة علي جذب التمويل لجامعات بعينها‏,‏ وتسويق الجامعات المختلفة بحيث تكون قادرة علي خدمة المجتمع المحلي من جانب‏,‏ وزيادة التمويل الخاص بها من جانب آخر‏.‏
كلها هذه من أفكار المرونة‏,‏ ورفع فكر القالب الواحد عن المؤسسات التعليمية في مصر لا يوجد فيها ما هو جديد‏,‏ أو ما لم يطبق من قبل في دول العالم المختلفة‏,‏ بل إنه كله تقريبا يوجد في أوراق ودراسات حكومية قامت بها المؤسسات التعليمية المختلفة من وزارات ومعاهد وهيئات‏,‏ ولكن تابوه التعليم تحت فزاعة عدم المساس بالمجانية بينما يجري انتهاكها كل يوم‏,‏ وتحت رعب الحصول علي الشهادات حتي لو كانت لا تساوي وزنها قيمة في سوق العمل‏,‏ كل ذلك يقودنا إلي الحالة التعليمية التي وصلنا إليها‏.‏ وهي حالة بات من الصعب الخروج عليها لدي الحكومة لأن هناك مجموعات من قدس الأقداس التي لا يمكن مسها وإلا انتهكت عفة المساواة وارتكب الذنب والمعصية‏;‏ والأخطر أنه بات صعبا الخروج عليها من قبل الرأي العام نفسه الذي تغذيه معارضة في السياسة والإعلام هي دائما علي استعداد لكي تلوك الظاهرة كل يوم وتتباكي عليها‏,‏ ولكن ليست لديها الشجاعة لكي تتبني أيا من الحلول والسياسات التي تتبناها الدول الأخري وأدت إلي ما نراه من تقدمها‏.‏
وبصراحة فإن التعليم من الخطورة بحيث لا يمكن تركه فقط لأهل المتكلمة لكي يكون مجالا للكلام وندب الحظ‏,‏ أو الاستسلام لمبادرات وزير أو آخر تواجه القضية مرة أو في واحدة من جوانبها بينما هي تطلب في الجوهر تغييرا في الإستراتيجية‏,‏ أو للاعتقاد أنه مشكلة مالية لا تستطيع الموازنة العامة أن تتخطاها في المدي القصير أو المتوسط ومن ثم ينبغي تركها حتي تأتي نهاية الزمان أو يجود الحظ بثروات لا تحد‏.‏ وهو من الأهمية في حد ذاته إلي الدرجة التي لا يحتاج فيها التمسح بقضايا الأمن القومي رغم كونه كذلك‏,‏ وهو لا يحتاج إلي إثبات لأن التجربة العالمية كلها شاهدة وجازمة‏,‏ وبالتأكيد فإنه آخر الموضوعات التي لا يصح معها حركة المواسم والمناسبات لأنه سوف يظل معنا طوال الزمن‏.‏
[email protected]

المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.