تبدو العبر المستوحاة من مشهد اعتراض أسطول الحرية كثيرة ومتنوعة, منها ما يخص نمط التفكير الإسرائيلي في الاستهانة بالمجتمع الدولي. ومنها ما يتعلق بتغيير أنماط التعامل مع غزة. فالإنزال البحري الذي قامت به إسرائيل جعل العالم يعيد النظر في صمته علي هذه الجريمة ويفكر مرتين. مرة بسبب الإحراج الذي حدث من وراء الهجوم علي سفن إغاثة في عرض البحر المتوسط. ومرة ثانية بسبب ضرورة البحث عن وسائل متوازنة للخروج من مأزق الحصار المفروض علي غزة مع الإبقاء علي أهدافه الخلفية. وإذا كانت الأولي ستمر بسلام كالعادة, فإن الثانية( المأزق) ستكون محل أخذ ورد وشد وجذب, لأن عجلة الحصار لن تعود إلي ما كانت عليه قبل القرصنة الإسرائيلية. معروف أن معظم الفرص تخرج من رحم المحن. لكن الاستفادة منها تتوقف علي درجة الاستعداد للتعامل معها. وفي مسألة الحصار تبدو غالبية الأطراف الفلسطينية والعربية قد أنهكها الخصام وغير مهيأة سياسيا أو قانونيا لاستغلال الفرصة الراهنة, في ظل استمرار الانقسام الذي حطم كثيرا من الإمكانيات المادية وأرهق جهات مختلفة, كانت تعول علي إعادة الوحدة الفلسطينية. ووسط صعود دور بعض الدول المجاورة سوف تتزايد حدة الاستقطاب في المنطقة العربية. بالتالي فالإمساك بورقة حل عقدة الحصار ربما يكون من نصيب أطراف غير عربية, لديها هوامش للحركة السياسية ومصالح متشابكة مع قوي دولية, يهمها في الوقت الحالي إيجاد وسيلة لوقف التداعيات السياسية والجنائية التي أصبحت تطارد إسرائيل. لذلك اتجهت الأنظار نحو ضرورة تخفيف قبضة الحصار. هناك خيارات متداولة وسيناريوهات متباينة, ظهرت ملامحها خلال الساعات الماضية. وذهبت في التفاؤل إلي حد عودة الأوضاع إلي ما كانت عليه قبل سيطرة حماس علي قطاع غزة, وفي التشاؤم إلي درجة السماح فقط بدخول بعض المساعدات عن طريق أحد المعابر الستة الإسرائيلية. لكن وسط هذين الاحتمالين طفا علي السطح احتمال ثالث تحمست له أطراف دولية وهمست به قيادات إسرائيلية. ويتعلق بالبحث عن صيغة لمراقبة شواطيء غزة, تحت إشراف عناصر الأونروا والصليب الأحمر أو غيرهما. من أجل تحديد السفن التي سيتم السماح لما تحمله من مساعدات بالاقتراب من شواطيء القطاع, وتفريغ شاحناتها الإنسانية. ومن ثم وقف زحف المزيد من السفن الأجنبية. مع أن هذه خطوة منقوصة في المعني والمغزي, إلا أن صيغة من هذا النوع تبدو مقبولة من قبل إسرائيل, لأنها تخفف العتب وترفع الحرج عن كاهلها وتضعه علي عاتق المجتمع الدولي, دون أن تتكبد خسائر سياسية أو معنوية. وتبقي علي موقفها الذي يصف حركة حماس بممارسة' الإرهاب'. وهذه صيغة ستحظي أيضا بمباركة قوي دولية, تجتهد لتسكين الغبار الذي نجم عن عاصفة الحصار بأقل أثمان سياسية. بل يمكن أن يبعدها هذا الخيار عن شبح الاتهامات والمظاهرات التي بدأت تنتشر في عدد من العواصمالغربية. ووضعت معظم المسئولين فيها علي أعتاب تناقضات مزعجة أخلاقيا. كما أن هذا الخيار لا تملك حماس رفاهية مقاومته أو رفضه. وربما تؤيده وتتعامل معه علي أنه خطوة في اتجاه مزيد من الاعتراف بها دوليا, وتسوقه باعتباره انتصارا للصمود والتحدي وقوة الإرادة السياسية. خطورة المضي في هذا الفضاء أنه يعيد إنتاج محاولات التدويل السابقة من قبل إسرائيل, والتي راجت في ثلاث مناسبات. الأولي, عقب الانسحاب الشهير من غزة والبحث عن بديل تحمله إسرائيل عبء الاحتلال. والثانية, بعد سيطرة حماس علي غزة في يونيو2007, لإحداث انفصال تام بين غزة والضفة الغربية. والثالثة, بعد وقف العدوان علي غزة في يناير2009, عندما روجت إسرائيل لفكرة إقامة منطقة عازلة, علي غرار ما حدث في جنوب لبنان. ولأسباب كثيرة فشلت ترتيبات إسرائيل ومخططات التدويل. والآن يتم التفكير في سيناريو مماثل, لكن عن طريق البحر فقط, ليحقق المرامي السابقة. ويزيد عليها عدة أهداف جديدة. أبرزها, محاولة نزع القضية الفلسطينية من أيدي بعض الدول العربية التي تملك ثوابت استراتيجية, سعت دائما للحفاظ عليها. والزج بأطراف إقليمية, إغراء وطمعا أو جهلا وخوفا. كما أن مشكلة التدويل عبر البحر يكمن في زيادة جرعة هدم أركان السلطة الفلسطينية, لأن حوارات وتفاصيل الوصول لهذه الخطوة وما بعدها ستكون من نصيب حماس. وهو ما يكرس الانقسام علي الساحة الفلسطينية ويجعل توصيل المساعدات إلي غزة يتقدم علي وقف بناء المستوطنات في القدس. والسعي لامتصاص غضب الشارع يتم علي حساب القضية الأم. تحقق هذه النتيجة فحوي المثل العربي' أوسعناهم شتما وأخذوا الإبل'. فما هي فائدة فتح نافذة علي البحر وسد كل الأبواب في البر ؟. وسوف يقلل المضي في تنفيذ هذا السيناريو من أهمية النداءات الشريفة لفتح المعابر الإسرائيلية, التي تمثل شريان الحياة وحلقة الوصل الحيوية بين الضفة والقطاع. وبدلا من استثمار ما حدث للشروع في ترميم البيت الفلسطيني, سينصب التركيز علي إضعاف فرص المصالحة الوطنية, لأنها نقطة القوة الرئيسية للحفاظ علي مرتكزات القضية القومية, والتي تحتاج إلي تنازلات سياسية وأمنية لا تستطيع بعض القوي الفلسطينية الإقدام عليها وسط التراشقات والخلافات السياسية وفي ظل ما حصدته من مكاسب آنية وما تسعي إليه من أمنيات وطموحات عقائدية. وفي النهاية نطرب لصوت الصراخ وتفوز إسرائيل بكل الإبل الفلسطينية والعربية. في تقديري أن استعادة الإبل تستلزم مناقشة موضوعية للسبل العملية لفك الحصار علي غزة, تشارك فيها كل القوي الفلسطينية, انطلاقا من حسابات سياسية دقيقة, تأخذ في اعتبارها عاملين. الأول, تغليب المصالح الوطنية علي أي مصالح حركية أو أيديولوجية, لأن الأولوية التي أخذتها الأخيرة كبدت القضية خسائر جسيمة, ألحقت الضرر بجملة من الثوابت الرئيسية وجعلت القضايا الأصلية تتراجع أمام الأمور الفرعية. والثاني, الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المواءمات الإقليمية. فهناك حقائق علي الأرض يصعب تجاهلها ومصالح لقوي دولية يمكن أن يؤدي المساس بها إلي إغراقنا في مناوشات جانبية تبعدنا عن القضية الأساسية. فالواقعية لا تعني' الاستكانة' ومراعاة التوازنات الدولية لا تعني التنازل عن الكرامة الوطنية. فكم من الجرائم ترتكب بحسن نية وكم من المصائب تأتي من وراء الشعارات ؟. المزيد من مقالات محمد ابوالفضل