لعل من أغرب ما أسمعه من عبارات بين شبابنا وشيوخنا علي حد سواء, حينما يقول أحدهم للآخر تعالي.. نضيع وقت!! ولعل من أغرب عادات الأسر المصرية والعربية علي حد سواء . ذلك الوقت الذي يهدرونه فرادي وجماعات أمام شاشات التليفزيون يقلبون ويتقلبون بين المحطات الفضائية بغرض أن يجدوا مسلسلا أو فيلما يشاهدونه, أو برنامجا شيقا يتابعونه بغرض تضييع الوقت!! ناهيك عن أولئك الذين يتفننون في إضاعة الوقت, متسكعين في الطرقات, أو جالسين علي النواصي والمقاهي التي انتشرت في كل الأحياء فقيرة وراقية انتشار النار في الهشيم. وليس بين هؤلاء وأولئك قواسم مشتركة إلا تمضية الوقت في الرغي والحكي عن فلان وعلان دون هدف أو غاية إلا تضييع ساعة أو ساعتين بل ربما ساعات من الوقت. لقد تناسي هؤلاء وأولئك ان استثمار الوقت وإدارته قيمة كبري من القيم الدينية أولا, ومن قيم الحياة المدنية المتقدمة ثانيا, لقد تناسوا أن الله قد أقسم بالزمان كله حينما قال تعالي في الآية الأولي من سورة العصر, والعصر, كما أقسم سبحانه وتعالي في عدة سور بالقرآن الكريم بالأوقات كلها, أقسم بالفجر, بالليل, بالنهار, وبالضحي, ونبه إلي أن الانسان سيحاسب علي وقته فيما أنفقه في قوله تعالي في سورة الفجر يومئذ يتذكر الانسان وأني له الذكري, يقول ياليتني قدمت لحياتي. وكم من أحاديث وأقوال مأثورة تؤكد قيمة الوقت وضرورة استغلاله في العبادة والأعمال الصالحة التي تنفع المرء والناس أجمعين. أما عن كون الوقت إحدي القيم الكبري في الحياة المدنية المتقدمة, فالحديث يطول حيث إن استثمار الوقت أحد مؤشرات القياس في الفرق بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة, فكثير من الانجازات الحضارية لتسهيل الحياة المدنية للأفراد في الدول المتقدمة من تمهيد الطرق وتنظيم المرور إلي اختراع الطائرات والحاسبات الالكترونية والانترنت إنما تمت كلها لتوفير الوقت واختصار الزمن لخير البشر جميعا. إن تنظيم الوقت والتدرب علي كيفية إدارته لتحقيق أكبر قدر من الانجازات بالتوازي مع إعطاء فسحة منه للترويح المناسب عن النفس ومساحة من التأمل, كل ذلك يمثل قيمة كبري من قيم ثقافة التقدم في المجتمعات المتحضرة والأكثر تقدما. ولاشك أن استثمار الوقت وإدارته ينبغي أن يتم وفق آليات معينة نكتسبها من عدة علوم من بينها علم الطب وعلم الإدارة وعلم النفس قبل كل ذلك وبعده من علم المنطق والتفكير العلمي, فلو أن كلا منا اقتنع بأهمية التفكير بطريقة علمية منظمة وتدرب علي ذلك فإنه حتما سيستفيد من نمط التفكير العلمي في تنظيم وقته والاستفادة من كل دقيقة من دقائقه. ولعل أحدنا الآن يتساءل: كيف أنظم وقتي وأستفيد من كل دقائقه دون أن أضيع منها شيئا, ولهذا السائل أقول: أن لكل منا رسالة في الحياة وهدف معين يسعي إلي تحقيقه. فإذا تحدد الهدف بدقة ستحدد علي الفور طرق أو طريقة تحقيقه. وأي طريق ينبغي أن يقسم إلي مراحل وكل مرحلة تستغرق زمنا معينا وتحقق خلالها أحد الأهداف الجزئية المؤدية إلي تحقيق هذا الهدف النهائي. وهكذا فالنجاح في حياتنا العملية يقتضي بلا شك ألا نترك وقتنا يضيع هباء إما بالفراغ أو بأحلام اليقظة, إذ علينا دائما أن نملأ الفراغ ونستثمر الوقت المهدر في تحقيق أهداف حقيقية نحددها بوضوح ونعمل علي تحقيقها وربما يبدأ الأمر بحلم يقظة لكن علينا أن نحول هذا الحلم إلي هدف واقعي نريد تحقيقه ثم نعمل بعد ذلك علي تحقيقه من خلال خطوات محددة مستثمرين في ذلك كل دقيقة من وقتنا دون أن نهدر منه شيئا, فلقد كان عمر بن الخطاب يقول دائما: إذا مسيت فلا تنتظر الصباح, وإذا اصبحت فلا تنتظر المساء, وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك, وهذا يعبر عن الحكمة الدارجة التي نحفظها جميعا, لا تؤجل عمل اليوم إلي الغد, إن الحفاظ علي قيمة الوقت واستثماره فيما ينفع المرء وينفع مجتمعه معه كما قلنا فيما سبق قيمة عظيمة من قيم ثقافة التقدم التي نراها ماثلة في كل الدول المتقدمة, فعندهم أن الاستغلال الأمثل للوقت هو السبيل إلي الحفاظ علي اطراد التقدم بالنسبة لهم, ولذا تجدونهم يضربون المثل دوما كأفراد وشعوب وكقيادات في تقسيم الوقت, وفي الحفاظ الدقيق علي المواعيد والمحاسبة الدقيقة علي كل ساعة من ساعات العمل ولا يأنفون من كتابة تقارير يومية عما قاموا به من أعمال وتحديد الأجر بناء علي ناتج الجهد وكثرة الانجاز في العمل. وليس ذلك فقط وإنما تجدهم يحرصون كل الحرص علي الجودة والاتقان في هذا العمل ولا يجدون أي غضاضة في الاعتذار عن أي تقصير في هذا العمل ولا يملون من إعادته مرة أخري طلبا للإتقان والجودة. وهذا هو الفرق الكبير بيننا وبينهم, إنه الفرق بين ثقافة التقدم وثقافة التخلف!! فالمؤمنون بثقافة التقدم يحرصون علي استثمار الوقت استثمارا جيدا ومفيدا, ويتقنون أداء أعمالهم خلال هذا الوقت, وإذا ما فرغوا من العمل تفننوا أيضا في إراحة الجسم, وفي الاستمتاع أيضا بوقت الراحة وقضاء أوقات الفراغ المحددة سلفا في الترفيه عن النفس. بكل السبل المتاحة وكثيرا ما يقضونها أيضا في السفر لاستصلاع وزيارة أماكن جديدة بغرض التعرف علي ثقافات وحضارات الشعوب الأخري. ولعل قائل يقول هنا: هؤلاء قوم تدربوا علي ذلك وساعدتهم بيئتهم ونظم تربيتهم علي ذلك فمالنا نحن ومال هؤلاء؟! لنا عاداتنا وقيمنا ولهم عاداتهم وقيمهم؟! والحقيقة أن هذا الكلام ظاهر الحق وباطنه الباطل, فرغم أن الأمم والشعوب تختلف في قيمها الثقافية وفي عاداتها وتقاليدها إلا أن الفرق الحضاري بينها إنما يحسمه استثمار الوقت في الإبداع العلمي والفكري وفي الحرص الشديد علي إتقان العمل وجودته والدليل علي ذلك أنه حينما كنا أمة تقود العالم حضاريا في عصر الإسلام الزاهي كانت هذه هي قيمنا وكان العالم العربي يركب راحلة ليجوب العالم بحثا عن علم يتعلمه أو استاذ يلتقي به وأعجب من قول أحدهم وكان يدعي عبدالرحمن بن أبي حاتم: كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة, كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ وبالليل النسخ والمقابلة وروي أنه وصديقه الشيخ رأيا في الطريق سمكا أعجبهما فاشترياه, فلما صارا إلي البيت حل وقت مجلس علم, فلم يمكنهما إصلاحه وأكله فذهبا إلي المجلس أولا, ولم يزل السمك موجودا علي هذه الحال ثلاثة أيام حتي كاد أن يتغير فأكلاه نيئا فلم يكن لديهم فراغا لكي يعطياه من يشويه لهم واختتم بقوله: لايستطاع العلم براحة الجسد!! لقد كان من قيم هؤلاء العلماء الأفذاذ, الحرص الشديد علي مجالس العلم وعدم إضاعة الوقت حتي في الأكل أو في راحة الجسد. ولذلك تقدموا وحصلوا علوم الأوائل في أسرع وقت ممكن واضافوا اليها ما أبهر الأوروبيين بعد ذلك فنقلوه وبدأوا حضارتهم الحديثة منه ولكم أندهش حتي الآن من قول روجربيكون اعظم علماء ومفكري أوروبا في القرن الثالث عشر قبيل عصر النهضة الأوروبية أعجب ممن يريد أن يبحث في الفلسفة والعلم وهو لايعرف اللغة العربية إن في ذلك الدلالة القاطعة علي أن اللغة العربية كانت قد أصبحت لغة العلم الأولي في ذلك العصر كما هو الحال الآن بالنسبة للغة الانجليزية إن التقدم العلمي والحضاري ليس وقفا علي أمة دون أخري, ولا علي شعب دون آخر, ولا علي لغة دون أخري وإنما هو مرهون بقدرة هذا الشعب أو ذلك علي أن يمتلك ناصية التقدم بالاستثمار الأمثل للوقت في الإبداع في كل مجالات العلوم والحياة والعمل الجاد والمتقن لتحقيق الهدف: أن اكون مشاركا مبدعا في حضارة العصر ولست متلقيا مقلدا إن هذه هي البداية التي ان آمن كل فرد من أفراد امتنا بها وأصبحت هي الغاية التي نعمل لها جميعا سينقلب حالنا رأسا عن عقب في غضون سنوات قليلة ولن يتوقف الأمر عند حدود المشاركة الفعالة في حضارة العصر بل ربما أصبحنا في غضون عقدين أو ثلاثة عقود من الأمم المتقدمة التي تقود الركب الحضاري ولاتقف في مؤخرته, إننا والأمم المتقدمة الآن نتشارك في نفس العصر ونعيش نفس الوقت لكن بينما هم يعيشونه في الإبداع والعمل الجاد لرفعة اممهم والحفاظ علي تقدمها واطراد هذا التقدم, نعيشه نحن في الاستهلاك والاستمتاع والتفنن في إضاعته في حال النوم وفي حال اليقظة. إن الفرق إذن بين الأمم المتقدمة والأمم المتخلفة في أي عصر انما هو استثمار الوقت وإدارته لصالح الإبداع وصنع التقدم وتحصيل الرخاء في كل المجالات بكل جدية وإتقان فهل آن الأوان لننفض عن أنفسنا عبء ذلك الكسل والترهل والاستمتاع بلذة تمضية أوقات العمل مثل اوقات الفراغ فيما لاينفع!! هل آن الأوان لنفيق من غفوتنا ونستيقظ للأوقات التي نعيشها فنستثمرها في العمل الجاد وفي الابداع لصنع حياة أفضل لنا وللأجيال القادمة؟ اعتقد أن قيمنا الدينية وقيم عصرنا الذي نعيشه تفرض علينا ضرورة إعادة الاعتبار الي قيمة الوقت واستغلاله بصورة مثلي لنعود الي سابق عهدنا مشاركين في صنع التقدم لأنفسنا ولجميع البشر.