علي الرغم من أن مصر تتمسك برباطة الجأش واتباع الأعراف الدبلوماسية في تناول إشكالية دول حوض النيل, الا أن تصريحات ومواقف دول المنابع لا تساير الموقف المصري الهادئ وتستمر في التصعيد يوما بعد يوم. فالإعلان عن أن دول المنابع سوف تستمر في ممارسة الضغوط علي مصر حتي تستجيب لواقع يمكن أن يفرض عليها, أو أنه لا عودة للوراء فيما يخص اتفاقيات المياه لهو خروج كامل عن الأعراف الدبلوماسية وأساسيات المباحثات بين الدول. الإدعاء بأن دولة مثل إثيوبيا تعاني من جفاف بعض من مساحتها تصل الي ربع مساحة الدولة ويعاني بعض سكانها من القحط ونقص المياه, نذكر بأن مصر هي الدولة الأكبر التي تعاني95% من مساحتها من القحط وقلة المياه وأن كامل سكانها البالغ ثمانون مليونا يعيشون متكدسين علي الشريط النهري للنيل فيما لا يزيد علي5% من مساحة الدولة وهي النسبة الأقل بين جميع دول الحوض التي يعيش بها شعب دولة بأكمله تاركين باقي مساحتها أسيرة للجفاف ونقص المياه وبل ومتبعين أصول اتفاقية دول الحوض والتي رفضها البعض هناك بعدم توصيل المياه الي مساحات خارج حوض النيل وليس خارج دولة حوض النهر!! إضافة الي ذلك فإن المساحة الجافة في اثيوبيا هي مساحة كان متنازعا عليها مع الصومال طوال الخمسين عاما الماضية وهي اقليم أوجادين ويعيش عليها اناس يتحدثون العربية وأقرب في صفاتهم الي الصومال. إن مصر هي الدولة الأكثر جفافا بين جميع دول الحوض ومتوسط الأمطار بها لا يتجاوز20 مم/ سنة مقارنة بمعدلات دول المنابع التي تصل الي1200 مم/ سنة وحتي مقارنة بالسودان وإريتريا بمعدلات500 مم/ سنة, لذلك فهي تعتمد اعتمادا كاملا علي حصتها في مياه نهر النيل وليس لها أي مورد آخر غيره, بل وتستفيد من مياه النيل بتدويرها عدة مرات, فإعادة استخدام مياه الصرف الزراعي في الري هي أصلا من مياه النيل التي استخدمت في ري الأراضي الزراعية ثم ذهبت الي المصارف فأعيد استخدامها مرة ومرات نتيجة لشح المياه في مصر متعرضين للكثير من الأخطار التي تصيب التربة الزراعية والمزارعين ومستهلكي الانتاج الزراعي بسبب نقص المياه ومحكمين الضمير المصري في حسن استغلال كل قطرة مما يصل إلينا دون اهدار أو اسراف, وبالمثل ايضا فإن ما يستخدم من المياه الجوفية في أراضي الوادي والدلتا لهو أيضا من مياه النهر نفسه والذي يغذي الخزان الجوفي أسفله وبدون النهر أو نقص أو شح المياه به فإن هذا الخزان الجوفي لن يكون له وجود, وبالتالي فإن مصر لا تتمتع برفاهية استخدام المياه العذبة التي تتمتع بها باقي دول الحوض بل تعيد استخدام المياه أكثر من مرة علي حساب صحة شعبها وتقتيرا واستفادة من كل قطرة ماء. إعادة توزيع بعض الحصص من دول المنابع علي بعضها البعض يعد أيضا خروجا عن قواعد الاتفاقات الدولية فمنح كينيا ثلاثة مليارات من حصتها المعتمدة ومثلها الي تنزانيا يجب ألا يعتد به, لأنه اذا كانت كل دولة من دول المنابع سوف تستأثر بنصف كمية الأمطار التي تصل اليها ثم يفقد النصف الآخر أثناء سريانه الي دول المصب بواسطة الأراضي المغمورة بالمياه والمستنقعات والبخر وقلة الانحدار في بعض مناطق مجري النهر خاصة في أوغندا وجنوب السودان, فهذا يعني أنه لن يصل الي مصر شئ من مياه النهر الواردة من المنابع الاستوائية والتي لا تتجاوز حصة مصر والسودان معا منها إلا13 مليار متر مكعب سنويا والتي يقطع النهر خلالها نحو1600 كيلو متر في ظل مناخ حار وأحوال معيشية تمثل خطورة علي نوعية المياه الواردة الي مصر. أن تصعيد الموقف من بعض دول المنابع الاستوائية ومنابع الهضاب الشرقية والتصريح بأنهم مستمرون في ممارسة الضغط علي مصر حتي تستسلم لما يفرض عليها ممن يصورون أنفسهم ملاكا لمياه النهر ومتهمين مصر بأنها تفرض نفوذها علي النهر متناسين أن هذا ليس بنفوذ أو استخدام لحق الفيتو وإنما هو حماية لمورد حياة المصريين الذين لا يمتلكون سواه ولا يمتلكون بديلا له وبغيره يكون الفناء هو الأجل الحتمي, ولذلك فإن ممارسة مصر لأقصي درجات ضبط النفس حتي الآن لهو اجراء محمود وللتذكرة أيضا فإن حق الفيتو موجود في القانون الدولي وتتمتع به سبع دول في مجلس الأمن تحت احترام كامل من جميع دول العالم ولا يتبقي لدول المنابع إلا أن تعترض عليه أيضا وتطلب إلغاءه. إن الأسس التي وضعتها دول المنابع لإعادة توزيع حصص مياه النهر تناست أهم أساس ينبغي مراعاته وهو نصيب الفرد من المياه في كل دولة ومدي اعتمادها علي مياه النهر ووجود روافد بها للنهر من عدمه وكذلك وجود مصادر أخري للمياه مثل الأمطار وحصادها ومدي اعتماد قطاعات الزراعة والصناعة علي أي من هذه الموارد, فإذا استخدمت هذه الأسس لكان إعادة التوزيع في صالح مصر أولا لأنها الأقل في نصيب الفرد من المياه بمعدل860 مترا سنويا للفرد من جميع مواردها وليس من النهر فقط( الصرف الزراعي والآبار).. ولو تم حساب نصيب الفرد من المياه من مياه النيل فقط(55.5 مليار متر مكعب سنويا) علي عدد سكان80 مليونا لانخفض نصيب الفرد الي690 مترا مكعب سنويا وهي الأقل في نصيب الفرد في جميع دول الحوض الذي يتراوح متوسطة بين1600 إلي2500 متر مكعب للفرد سنويا ويرتفع في الكونغو الي23500 متر مكعب للفرد/ سنة!! الأمر لا يحتاج لتوسل من هنا ومن هناك فالأمر يتعلق بحقوق راسخة ينبغي أن نتقاوض عليها من منطلق القوة الإقليمية مذكرين من يتصورون أن مصر من الدول السبع الصناعية الغنية الكبري في العالم وأن عليها أن تنفق الكثير هناك حتي يبلغوا المكانة المصرية, أن هذا لن يجدي مع مصر.