كان لابد أن يعتكف جمال حمدان طويلا ليخوض في أعماق جغرافية مصر ويكشف أبعاد عبقرية المكان ويشير لمن يريد أن يتعمق إلي أنها ليست عبقرية جغرافية فقط, ولكنها عبقرية تاريخ وعبقرية إنسان. وأن ذلك المزيج من الحجر والبشر ظل في تلك البقعة الفريدة من الأرض يتفاعل ويأخذ ويعطي ويرسب في أعماق الإنسان الجينات المختلفة التي تحيز البشر في مراحل التاريخ. وكانت هذه الجينات في البدء في نطاق مقدرة معرفتنا هي الجينات الفرعونية الباذخة التي غرست بقايا وآثار عبقريتها في العلم والهندسة والتشييد والنحت والطب والتحنيط وخلافه وانتصرت بهذه البقايا الرائعة علي الزمن لتظل مثار دهشة العالم الحديث كله حتي أيامنا هذه التي لايزال كبار علماء أمريكا واليابان تاAئهين في غيابات الهرم الأكبر باحثين عن الحقيقة الغائبة ولسنا بصدد تسجيل التاريخ, وكلنا نقفز مااستطعنا هنا وهناك لنصل الي مدي ألف وإلغاء خمسمائة عام لنري الجينات العربية والاسلامية تقفز الي مصر وتترسب في أعماق النيل وتختلط بالجينات الفرعونية ويحتضن كل منهما الآخر حتي يذوب في أحضانه ويصبحان كلا واحدا يتعذر علي طاقة البشر مهما كانت ان تميز بينهما وتصبح هذه ميزة كبري للشعب المصري المعاصر علي كل شعوب العالم, والغريب الذي نعاني منه في أيامنا هذه التعيسة ان هناك بعض المخرفين الذين يتوهمون ويعلنون ان الجينات في أعماقنا منذ خمسة عشر قرنا أي منذ ألف وخمسمائة عام لم تتحد بالرغم من أننا نتعايش ونتفاعل ونتزوج ونتصاهر ونتناسل ومن المضحك المبكي انهم يتحدثون عن الدين ويتناسون المقولة المصرية العاقلة الصادقة الخالدة التي تقول ان الدين لله والوطن للجميع, ويؤسفنا ان نعيدهم الي مدارس الحضانة في التاريخ يراجعون أيام دخول المسلمين العرب الي مصر, وكان الدين المسيحي فيها يتنازعه جانبان: الجانب الروماني الكاثوليكي الوافد, وكانت عاصمته الاسكندرية والجانب الأصلي العريق الأرثوذكس صاحب الأرض, وقد اضطهده الأجانب الكاثوليك حتي أجبروه علي الفرار الي الصحراء البعيدة ليستكن في الأديرة التي لاتزال هناك وقد طرد العرب الوافدون الكاثوليك الأجانب من الاسكندرية واحتضنوا الأقباط المصريين وأعادوهم الي أحضان النيل وساعدوهم في بناء كنائسهم. وكانت العادة في التاريخ القديم ان المختلفين في الدين لا يشتركون في الجيش ولا يواجهون الأعداء ويدفعون مقابل ذلك عن رضي مايسمي الجزية ولكن هذا تاريخ عفا عليه الزمن وتغلبت الجينات المصرية علينا جميعا الي حد ان انتهت براءات الجزية وضاعت مع الزمن حتي بلغ الأمر أنه في حرب مصر الظافرة في عبور1973 كان القائد العام في الجيش الثاني قائدا قبطيا يعمل تحت إمرته مئات الألوف من الضباط والجنود المصريين المسلمين. والمتأمل في كلام النابغة جمال حمدان يدرك تحت أعماق الكلام أبعاد الكيان المصري الخالد التي تتمثل في أن هذا الشعب العجيب له مقدرة هائلة في مقاومة الغرباء خاصة من أصحاب السطوة والغلبة والنفوذ والسلطان وحاشيتهم, فقد شاء القدر ان يتوالي علي العدوان علي مصر وعلي تولي الحكم فيها وكما قلنا لسنا مؤرخين ولذلك نتجاوز الفترة الفرعونية بحروبها وانتصاراتها وانكساراتها ولكن بعدها توالي وتتابع علي حكم مصر علي سبيل المثال لا الحصر الأتراك الشراكسة والمماليك والمقدونيون والفرنسيون والانجليز والشعب المصري المناضل يحمل العبء ويضحي ويقاوم ويحاور ويداور ويصبر ويصابر ويحمل ما لا تحمله الجبال, ثم ينتصر في نهاية الأمر ويظل المصري مصريا بكل سماته وجيناته وعظمته وخلوده مرفوع الرأس موفور الكرامة. ولكيلا يكون كلامنا تعبيرا عن شيفونية طاغية ويكون متحريا كل مايستطيع من صدق يكسب احترام المتلقين من أبناء أجيالنا القادمة نقر ونعترف بأن هذا الصراع الطويل لم يكن أمرا سهلا ميسورا ولكنه كان معارك ضارية, ولابد لهذه المعارك من أن تكون لها جراح وان تترك في أجسادنا وأرواحنا وأخلاقنا وعاداتنا ندوبا بعضها عميق وبعضها هين وسرعان ماتذروه الرياح والباقي علي الزمن نواجهه ونتهيأ له ونعالجه ومعنا إيماننا بالله والوطن الذي لا يهون وأولا وأخيرا عظيمة يامصر.