يبقي انتقال الأفكار عبر الحدود أمرا لصيقا بالأمم في لحظات صعودها عقب تحولات كبري تكنولوجية واقتصادية تناشد المستقبل أو ثورات كبري قومية ودينية تؤكد الهوية. علي نحو يدفع بها إلي تجاوز أوضاعها العادية' المألوفة' ويزيد من قدراتها علي الإمساك بمصيرها, ويولد لديها رؤي طوباوية للتاريخ فتشعر بأنها الأكثر فهما لمنطقه, والأقدر علي التصرف حسب خطته, باعتبارها وكيلة له, في تغيير العالم من حولها بدءا بالخارج' القريب'. فإذا ما تصادف وكانت الأمة الصاعدة كبيرة حجما, فإن سياق السياسة الدولية يتحدد من خلال سلوكها الذي ربما وسم بطابعه مراحل كاملة في التاريخ العالمي قد تطول وقد تقصر علي منوال حقبة الهيمنة الهولندية في القرن السابع عشر والتي قامت علي الاقتصاد المركنتيلي الجديد قياسا إلي عصر الإقطاع. أو حقبة الريادة الفرنسية في القرن الثامن عشر حينما لعبت فرنسا دور الأمة المحفزة للتطور العالمي بإلهام ثورتها التحررية التي حاولت تغيير الآخرين بقوة الأفكار التي أذكتها عن الحرية والإخاء والمساواة. وعلي منوال العصر الفيكتوري حيث لعبت بريطانيا العظمي الدور التحفيزي نفسه علي خلفية سبقها إلي الثورة الصناعية وهيمنتها علي حركة الاقتصاد والمال العالميين. أما الولاياتالمتحدة فتمثل, وبامتياز, الدولة المحفزة للعالم عبر قرنين سواء بوجهها الجذاب المتمحور حول الحلم الأمريكي عن وطن تتحقق فيه الحرية كاملة, والمساواة مطلقة والذي ساد القرن العشرين, أو بوجهها التوسعي الإمبراطوري الذي استهلت به القرن الحادي والعشرين. بينما لعب الاتحاد السوفيتي الدور نفسه من بداية الربع الثاني وحتي نهاية الربع الثالث من القرن الماضي, بقوة دفع الثورة البلشفية ودعوتها الأثيرة إلي العدل الاجتماعي المطلق, والمساواة الإنسانية الكاملة. أما إذا كانت الأمة الصاعدة من الحجم المتوسط فالأغلب أن يتوقف تأثيرها عند حدود الإقليم الجغرافي المحيط بها, فلا تستطيع وسم مراحل التاريخ بميسمها أو السيطرة علي النظام العالمي بقوتها, وإن تمكنت من مناوشة القائمين عليه من داخل إقليمها. وهو الدور الذي لعبته مصر الناصرية في الربع الثالث من القرن العشرين بإلهام ثورة يوليو, وبقوة أفكار تقدمية عن العدل الاجتماعي والإرادة القومية, وهو الدور الإقليمي نفسه الذي تلعبه إيران لثلث قرن مضي ولا تزال ولكن بقوة دفع أفكار تقليدية' دينية', فمع نجاح ثورتها الإسلامية ضد نظام بالغ الاستبداد وراسخ القدم في التحالفات الأمريكية المهيمنة علي المنطقة كلها, لم يكن غريبا أن تنتعش آمال الثوار في إيران, وقد سيطروا علي مصيرهم, في تعميم نموذجهم لما يتصورونه الطريق الوحيد لاعتاق العالم الإسلامي من السيطرة الغربية. ومن ثم توجهت إيران نحو الجوار العربي' الإسلامي' لتبليغ ما اعتقدت أنه رسالتها الجديدة التي وضعها التاريخ في أعناقها. غير أن ما لم تدركه إيران هو أن مصادر إلهامها لا تنتمي إلي المستقبل, وهو أحد أهم شروط نجاح الأدوار المحفزة للتاريخ, ولم ينتبه العقل الإيراني إلي اتجاهات نمو الدين في العالم الحديث, ولا إلي حدود قدرته علي التجاوز, فربما يظل الدين أداة صالحة لتوفير الحشد, وتظل الحركات الأصولية والراديكالية في كل الأديان قادرة علي ممارسة الممانعة ضد التيار الرئيسي ولكنه لم يعد كافيا, وحده, لإنجاز التقدم, أو تحقيق الحكم الرشيد, وبالأحري توفير أدوات صالحة حقا لصنع التاريخ, الذي تشي حكمته بأن الأفكار اليوتوبية لم تكن دوما حاكمة لمسيرته, وبأن كل محاولات الخلاص من خارجه معطياته الموضوعية له لم تكن سوي هوامش علي دفتره, ربما كانت موقوتة سرعان ما تنتهي بالاستسلام للواقع والعودة من جديد إلي التزام هذه المعطيات.. فهل يعني ذلك أن الثورة الإسلامية لا تعدو جملة اعتراضية في تاريخ إيران؟ أو بالأحري هل كان حال إيران سيتغير عما هو الآن لو لم تقم هذه الثورة؟ وهل كان حال الجوار العربي سيختلف ؟. علي صعيد إيران لابد من تذكر أن الثورة قامت في مواجهة استبداد علماني جسده نظام الشاه, فكرست استبدادا دينيا جسدته ولاية الفقيه, خليفة الإمام الغائب, العارف بالحقيقة الكونية الشاملة, والأقدر علي تفسير التاريخ, والذي بث معرفته تلك في روح آيات الله, ووكلهم بثها في روح الشعب. لقد حل استبداد ملفوف بالقداسة محل استبداد مزروع في الفساد, وبرغم أن كليهما سييء, فإن الاستبداد العلماني ربما كان أكثر خضوعا لحركة التاريخ, وقبولا بفكرة المساومة والحلول الوسط إذ يخلو من ادعاء القداسة والتسامي وهو أمر كان سيتيح للشعب الإيراني قدرة أكبر علي تحقيق تطور ديمقراطي كشفت الأحداث المصاحبة والتالية علي الانتخابات الرئاسية الأخيرة حاجته إليه. ذلك أن جيلا كاملا ولد بعد قيام الثورة الإسلامية( يتجاوز عمره الآن31 عاما), ومن ثم فقد أكمل تعليمه ودخل إلي معترك الحياة العامة, مواكبا موجات ديمقراطية متنامية, وفضاءات إعلامية متمددة بحجم الكوكب كله, وثورة تكنولوجية جامحة يكفي منها الشبكة العنقودية القادرة وحدها علي اقتحام البحار وسبر أغوار الكهوف. ما يعني أن ذلك الجيل لابد أنه كان سيطرح مطالب ديمقراطية ويحقق بعضها علي الأقل لو لم تقم المرجعية الدينية حائلا دونها. وعلي الصعيد نفسه ربما بلغت إيران مستوي اقتصاديا أفضل, ذلك أنها, مع دول أخري قليلة, لا تزال تعيش بروح الجغرافيا السياسية للحرب الباردة, حيث تعلو أهمية المكون الاستراتيجي العسكري علي ما سواه, ويتنامي تورطها في صراعات متباينة النطاق والعمق, طموحا إلي تحقيق الكبرياء القومي, علي حساب نهج الجغرافيا الاقتصادية القائم علي تبادل المصالح والاعتماد المتبادل. ويرجع ذلك بالطبع لكون نظامها وليد ثورة دينية ذات نهج معاد للغرب المتحكم غالبا في الفضاء العالمي الحديث كله, ومن ثم كان طبيعيا أن تبدي إيران نوعا من التمرد علي هذا الفضاء وما أنتجه من بنيات كالعولمة أو منظمة التجارة العالمية أو غيرها. وأما علي الصعيد العربي, فالأغلب أنه كان سيصبح أكثر أمنا واستقرارا عما هو بالفعل, فلم تكن إيران تسعي لأن تصدر إليه نموذجها' الشاهنشاهي' في العلمانية المستبدة, ولم تكن لتتمكن من اللعب علي أوتار الأقليات الشيعية في الخليج العربي. والأغلب أن حرب الخليج الأولي بين العراق وإيران لم تكن لتقع أساسا بين نظامي الشاه وصدام حسين, المستبدين والمواليين للغرب. ربما كانت لتحدث تحرشات عسكرية ما, وربما وقعت اشتباكات محدودة المجال أو متوسطة المستوي, وفي الأغلب مؤقتة قليلة التأثير, قياسا إلي الحرب الطاحنة بين صدام والخميني لأكثر من ثماني سنوات, وما تلاها من تعاظم نفوذ صدام حسين والذي أغواه بغزو الكويت وأدي تاليا إلي سحق قواته من قبل التحالف الدولي الأمريكي, بإسهام عربي دفاعا عن الشرعية الدولية علي نحو كسر نظرية الأمن القومي العربي, وأدخل المنطقة كلها في حالة فراغ استراتيجي لم تخرج منها حتي الآن. غير أن ثمة وجه اآخر للعملة, فالثورة الإسلامية جعلت إيران أكثر وعيا بأصالته الحضارية, وأعمق رغبة في قيادة المنطقة التي وسمها الغرب ب' الشرق الأوسط' والتي نسميها' المشرق العربي الإسلامي' نحو فلك مستقل عن النفوذ الأمريكي أو المركزية الغربية بالمعني الواسع, الأمر الذي اقتلع إيران من كفة الميزان الأمريكي, وجعلها ندا للمشروع الإسرائيلي في المنطقة. صحيح أن نديتها لإسرائيل لا تجعل منها تلقائيا ثقلا مضافا إلي كفة الميزان العربي, وأن في تلك الندية قدرا من المزايدة علي التيار الرئيسي في العالم العربي, بل وأن جزءا أساسيا منها ينهض علي امتلاك أوراق سياسية في الساحة العربية كالعلاقة مع حركة حماس وحزب الله ثم سوريا ولكنها في كل الأحوال لم تعد جزءا من الإستراتيجية الأمريكية, ولا حلقة في سلسلة التحالفات الغربية حول العالم العربي. وربما ضايق الكثير منا تحالفها مع هذه القوي العربية والذي يقسم الجهد السياسي العربي بين تياري الممانعة والموالاة, ولكننا سنكون أكثر ضيقا بلا شك لو أنها تحالفت مع إسرائيل علي منوال تركيا في التسعينات مثلا. وهكذا يمكن تصور حصاد الثورة الإيرانية في تحقيق المزيد من الشعور بالكبرياء الوطني نتيجة لحال الاستقلال الحضاري عن المشروع الغربي, ولكن عبر ثمن مركب من ديمقراطية متعثرة, وتنمية معطلة, ما يعني أن غيابها ربما دفع بإيران نحو موقف أكثر تكيفا مع حركة التاريخ, وأقل نزوعا إلي الاستقلال الحضاري, فيما كان العالم العربي يصير أكثر أمنا علي شواطيء الخليج, وأكثر عزلة في مواجهة إسرائيل.