أسفرت معركة التعديلات الدستورية التي شهدها البرلمان التركي الأسبوع الماضي(1 2010/6/6) عن مكاسب وخسائر لطرفيها الرئيسيين, فقد كسب وخسر حزب العدالة والتنمية الحاكم, صاحب مشروع التعديلات الدستورية. وخسرت وكسبت أيضا أحزاب المعارضة الممثلة في البرلمان, وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري, وحزب الحركة القومية. ولكن التدقيق في حجم ونوعية المكسب والخسارة لكلا الطرفين, يوضح أن ما كسبه الحزب الحاكم أكبر بكثير مما خسره, وما خسرته أحزاب المعارضة أكبر بكثير مما كسبته. من مواد مشروع التعديلات التي قدمها حزب العدالة والتنمية والحاكم(27 مادة) هناك مادتان أساسيتان دارت حولهما المعركة بضراوة بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة, وهما: المادة رقم8( حسب تسلسل المواد في مشروع التعديل) التي تهدف إلي تقيد حظر الأحزاب السياسية, والمادة رقم17 التي تهدف لإعادة هيكلة أعلي مؤسسة قضائية وهي الحكمة الدستورية, وتحديد اختصاصاتها فيما لا يتجاوز تطبيق القانون. وليست المادتان علي درجة واحدة من الأهمية; فمادة إعادة هيكلة المحكمة الدستورية العليا, أكثر أهمية من وجهة نظر حزب العدالة والتنمية, مقارنة بمادة تقييد حل الأحزاب. صحيح أن المادتين مهمتان, ولكن موازين القوي بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة, استلزمت درجة عالية من المهارة والاقتدار السياسي في إدارة معركة التعديلات كي يخرج الحزب بأكبر المكاسب, وأقل الخسائر. كسبت أحزاب المعارضة بنجاحها في إجبار البرلمان علي شطب م/8 من مشروع التعديلات, وهي التي تستهدف تقييد حل الأحزاب. ولكن حلاوة هذا المكسب جاءت بطعم الخسارة المرة. لأن أحزاب المعارضة ارتكبت خطأ لن يغفره لها الرأي العام التركي; فهو سيظل يتذكر أن هذه الأحزاب وبمقدمتها حزب الشعب الجمهوري, اعترضت علي تأمين حق أساسي من حقوقه, وهو حق تكوين الأحزاب دون أن تكون عرضة للحل بناء علي رغبة فرد وحد( المدعي العام) طبقا النظم المعمول به حاليا, وجري بموجبه حل25 حزبا, وكاد قبل عامين ان يحل حزب العدالة الحاكم رغم أنه منتخب من حوالي16 مليونا من المواطنين الأتراك الذين صوتوا لصالحه مرتين في الانتخابات العامة(2002 2007). جوهر التعديل الذي أجهضته أحزاب المعارضة هو أنه لا يجوز للمدعي العام أن يقيم دعوي حل أي من الأحزاب الا بعد موافقة مسبقة من لجنة برلمانية تتشكل من خمسة أعضاء من كل حزب ممثل في البرلمان ويرأسها رئيس البرلمان. المعارضة رفضت هذا التعديل, وهللت لنجاحها في شطبه من حزمة التعديلات الدستورية. المفارقة هنا أن أحزاب المعارضة حققت مكسبا علي حساب الشعب بشطب المادة التي استهدفت تأمين إجراءات حل الأحزاب, وإشراك الشعب نفسه في قرار الحل عبر اللجنة البرلمانية التي أشرنا إليها. بينما مني الحزب الحاكم بخسارة علي حساب نفسه وخاصة أن ستة من أعضائه في البرلمان انحازوا لموقف أحزاب المعارضة في التصويت ضد هذا التعديل الخاص بحل الأحزاب يجعل الحزب الحاكم, وكذلك أحزاب المعارضة عرضة للحل حسبما يري المدعي العام, ووفق إرادة المحكمة الدستورية!; ورغم أن إجراءات الحل المعمول بها حاليا ليست بسيطة, ولكن التعديل المجهض كان يعزز جانب الإرادة الشعبية علي إرادة السلطة. ولكن خسارة م/8 من حزمة التعديلات, غطي عليها كسب موافقة البرلمان علي م/17 الخاصة بإعادة هيكلة المؤسسة القضائية, وكذلك م/23 الخاصة بمجلس القضاء الأعلي والمدعين العامين. فالتعديل الذي أجازه البرلمان بأغلبية336 صوتا يقضي بزيادة عدد اعضاء المحكمة الدستوري من11 حاليا الي17 عضوا أصيلا, علي أن يختار البرلمان أثنين منهم بالتصويت السري, أما باقي الأعضاء فيختارهم رئيس الجمهورية وفق إجراءات خاصة, علي أن تكون ولاية العضو المنتخب12 عاما مدة واحدة غير قابلة للتمديد, والأهم من ذلك هو أن قرارات المحكمة بحل الأحزاب يجب أن تكون بأغلبية ثلثي عدد أعضائها, وليس بالأغلبية المطلقة( النصف زائد واحد) كما هو معمول به حاليا. وهنا مكمن الاقتدار السياسي الذي قلنا إن حزب العدالة قد حققه; فشطب مادة الأحزاب من حزمة التعديلات وإن فوت فرصة لغل يد المدعي العام عن تحريك دعوي الحل, إلا أن تمرير مادة القضاء فتحت الأمل مة أخري لتحجيم العقلية الإقصائية التي دأبت علي حل الأحزاب حسب هواها, وذلك بإشتراط أغلبية موصوفة بالثلثين لصحة قرار المحكمة الدستورية بحل حزب سياسي بناء علي دعوي المدعي العام. صحيح أن مادة الأحزاب كانت ستحجم عملية الحجب من المنبع, وكان هذا أفضل, ولكن مادة القضاء ستحجم الحل أيضا عند المصب وقبل صدور قرار الحل, وهذا أفضل من لا شيء. واقع الحال أن المعركة لم تنته بعد. فإقرار البرلمان لحزمة التعديلات الدستورية لم تتوافر له أغلبية الثلثين كي تسري التعديلات تلقائيا, ومن ثم أسرعت الحكومة بإحالة المشروع لرئيس الجمهورية للنظر فيه, وله أن يعيده للتصويت عليه مرة أخري في البرلمان, وهو احتمال مستبعد جدا, أو أن يعيده للحكومة كي تطرحه للاستفتاء الشعبي العام وهو المرجح. وترغب الحكومة في إجرائه في يوليو المقبل, قبل الدخول في الفترة التي يستحيل فيها تنظيم استفتاء عام بحكم الدستور قبل عام من الانتخابات البرلمانية في يوليو.2001 أما المعارضة فقررت رفع دعوي بعدم دستورية التعديلات جملة وتفصيلا, وتأمل أن تماطل المحكمة الدستورية في نظر القضية حتي يحل الوقت الذي يتعذر فيه الأستفتاء دستوريا. وفي هذه الحالة, سيكون بإمكان الحكومة الدعوة لانتخابات مبكرة; كي تقطع الطريق علي احتمالات انحياز المحكمة الدستورية لصف المعارضة وتجهض التعديلات. اقتدار الحزب الحاكم في تركيا يتجلي الآن في أنه ذاهب إلي الشعب كونه مصدر السلطات والولي علي نفسه, ليستفتيه في أمر التعديلات التي ستنقله لعهد جديد, بينما أحزاب المعارضة ذاهبة لتمسك بالعصا الغليظة للقضاء الدستوري, تستقوي بها علي إرادة الشعب. وأغلب الظن أنها ستخسر دعواه, وستنكسر عصاها, لأن الشعب بات في مستوي الولاية علي نفسه.