لم يكن محمد مندور(1907-1965) مجرد ناقد من نقاد الأدب, ينفق عمره بين الكتب والأوراق, بعيدا عن مشاكل الحياة والعالم, ولكنه كان قطعة حية من تاريخ الثقافة المصرية, ومن ضمير الوطن, يتلقي معارفه من العصر مثلما يتلقاها من تراث الشرق والغرب. ارتبط بالحياة السياسية في بلاده, كما يليق بالمثقف أن يفعل, غير انه لم يدع السياسة التي خاض غمراتها تتحكم فيه, حين اتجه بكل ثقله الي النقد الأدبي. ولذلك فان القاريء, حين يقرأ مقالات مندور السياسية, يطالع فكرا سياسيا خالصا, وحين يقرأ مقالات مندور النقدية, التي تنتمي الي النقد الأيديولوجي, لايجد فيها ما يمكن أن يختلط بفكره السياسي, ذلك أن أيديولوجية مندور ايديولوجية رحبة غير متزمتة, اهتدي اليها بعد نقده التأثري او الجمالي الذي يعد امتدادا لتراث النقد العربي القديم. ويقوم هذا النقد الأيديولوجي علي عدم الفصل بين الفن والحياة, وعلي العدالة الاجتماعية والديمقراطية, ويعرف كيف يضع المؤلفات في مكانها الصحيح الذي لايقتصر علي بعد أو عنصر واحد دون سائر الأبعاد والعناصر. ومن الواضح أن هذه الأيديولوجيا ثمرة من ثمار القراءات المتبحرة في التراث الانساني, والاحاطة التامة بالأحداث واللحظات الكبري في التاريخ, التي تتجلي في كتاباته السياسية كما تتجلي في نقده. ولم يكن مندور في ترجمته يكتفي بالترجمة عن اللغة الأصلية, بل كان يضيف اليها من الهوامش والتعليقات والمقدمات ما يحتاج اليه القاريء لفهم النص في صياغته العربية. أما التراث القومي فيشمل الأدب العربي والأدب الشعبي. وفي رأيه أن الأدب الشعبي أفصح في التعبير عن الروح الوطنية الأصيلة, وكان يري في العامية من الخصائص الغنية ما تتفوق به علي الفصحي, خاصة اذا كانت هذه الفصحي تقليدية متكلفة, تغلب عليها الصنعة والزخرفة. ولهذا كان مندور يتمني أن تصل الثقافة العربية, كما هو الحال في الآداب العالمية, الي لغة أدبية مشتركة, تتقارب فيها المسافات بين الفصحي والعامية, او بين لغة الكتابة ولغة الحديث اليومي. وتختلف هذه الدعوة عما نادي به لويس عوض في1942 من الكتابة بالعامية مباشرة, وطرح الفصحي او الخروج علي الفصحي. وهي دعوة لم تجد من يعضدها, وعدل عنها لويس عوض نفسه, بينما ظلت دعوة مندور محل تجارب الكتاب علي اختلاف اتجاهاتهم, لأنها تحافظ علي المواضعات اللغوية, ولاتعرف القطيعة مع تراث العربية, وتحاول أن تستفيد مما في كل من الفصحي والعامية من قيم فنية. ومن يراجع أعمال مندور يجد أنها تلتمس في صفحات التراث, منذ اليونان وعصر النهضة والفكر الغربي المعاصر, مجموعة القيم والمباديء العامة التي وضعت اللبنات الأولي للدولة المدنية والحضارة, دون أن تغيب عن حسابه الآراء المناهضة للتقدم التي لم يسلم منها عصر من العصور. فقد كان هناك دائما من يدافعون بحرارة عن الماضي, ويدعون الي نبذ مكتسبات العصر, كما وجد أيضا بين نقاد الأدب من يهاجم الفن الحديث علي اطلاقه, ومن يريد أن ينأي به عن خصائصه, ويقحم عليه مناهج نقدية غير مناهجه, علي حين لايحفل أحد من هؤلاء المهاجمين لروائع الفن بأن ينقد تيارات العبث واللامعقول التي ازدهرت تحت تأثير الحروب وويلاتها وأزماتها, وأدت الي تفكك العلاقات الانسانية, وتصدع الأرواح, وهي التيارات التي وجدت في ثقافتنا من يكيل لها المدح, ورفضها مندور رفضه لمذهب الفن للفن,رغم أن عددا من النقاد أيدها, انطلاقا من أن النزعات الطليعية في الفن يمكن أن تفيد الابداع الانساني الملتزم. ومندور بهذا الموقف يعد من النقاد الذين يربطون بين الثقافة والأخلاق, او بين الثقافة والمثل العليا, حتي تؤدي الثقافة رسالتها نحو الفرد والأمة. والمعيار الصحيح للمثقف عند مندور ليس من حاز العلم وتضلع في المعرفة, وانما من يحس بنبض المجتمع, ويقاوم نوازع الشر والضعف والخرافة فيه, ومن يجيد فهم كل ما يحيط به من صراعات, ومن سما خلقه ورقت مشاعره, ولم يخامره التعصب او الغرور او الكبرياء. ومثل هذا المثقف هو الذي نبحث عنه كلما حلت ذكري مندور. فهل نجده؟!