يراودني حلم قديم منذ صغري أن أقطع تذكرة لفيلم موريتاني في دار عرض موريتانية, وأشاهد جملا سينمائية تعبر عن واقعنا الأليم وتخرج للعالم جمال طبيعتنا العذراء , وفي أثناء زيارتي ل'كينيا' كنت أعاني عندما أقول أنني موريتاني, فالكل كان يبدي تعجبا من هذا الاسم' موريتانيا' ويسألون أين هي؟ فتاة إنجليزية سألتني' ما هي موريتانيا', فقلت هل تعرفين عبد الرحمن سيساكو؟ قالت نعم, فقلت: هو من بلدي, معاناة وألم أحمد بن جدو الناشط السياسي والحقوقي كما سجلها في مدونته تتبدي فيها حال السينما في بلد يعج بالمثقفين والكتاب- وإن كان تاريخ السينما فيها غير حديث- ويعرفها الناس ب' سيارة العفاريت', لأن المحتلين الفرنسيين كانوا يعرضون السينما من خلال شاشات عرض في شاحنات كبيرة تجوب البوادي ليري الصحراويون مشاهدا رأوها شياطين وجني. كان أول ظهور للسينما في موريتانيا علي يد السينمائي الفرنسي' غوميز' في نهاية الخمسينيات, ثم ظهر' همام' الشاب الموريتاني المثقف الذي بهرته السينما, فحاول الإسهام في شيوعها, فأنشأ عددا من دور العرض في' نواكشوط' واشتري دار سينما' غوميز', ثم أنتج أفلاما صحيح أنها بلغة السينما متواضعة ولكنها الآن تمثل ثروة كبيرة, حيث تقدم مشاهدا لموريتانيا في الستينيات- تختلف جذريا عما هي عليه الآن- وتؤرخ لبدايات هذا الفن عند أقصي نقطة عربية علي شاطئ الأطلسي في غرب إفريقيا. وشاءت أقدار شاب آخر هو' محمد هندو' الذي تسلل إلي فرنسا في رحلة غير شرعية وعمل طباخا وحمالا وعاملا بإحدي المسارح أن يقدم بعد أن تعلم ودرس السينما أفلاما سينمائية جيدة رصدت معاناة الأفارقة المهاجرين في فرنسا مثل فيلمي:' العرب والزنوج' و' جولة المنابع', وأن يكون' عبد الرحمن سيساكو' الذي عرف ب' بن جدو' نفسه هو الحلقة الثالثة في العقد السينمائي الموريتاني والذي ساقته المصادفات ليدرس السينما هو الآخر في الاتحاد السوفيتي ويبدأ مشواره السينمائي المتخم بالنجاح والجوائز, منها جائزة الجمهور في مهرجان كان عن فيلمه' في انتظار السعادة', وشارك فيه كعضو لجنة تحكيم في دورة.2007 وتنطلق الحلقة الرابعة علي يد' عبد الرحمن أحمد سالم' الفنان الشاب المثقف الذي بدأ حياته بتمثيل برنامج' شيء يلوح' من نوع السياسي الساخر في التليفزيون الوطني ثم تحول إلي الصحافة وأسس مع بعض من زملائه جريدة' ايش طاري', ولكنها كانت خطوات في طريق البحث عن غوايته المسكون بها, وكانت الانطلاقة عندما عمل مع' سياسكو' كمساعد ثان في فيلم' في انتظار السعادة', فتعلم وأكمل تعليمه بدراسة الإخراج في باريس ليعود ويبدأ عملا جماعيا ويستثمر في السينما لينعته البعض بالجنون, ولكنه كان واع للتحدي وشجعه توافد الشباب من جيله والأجيال التالية ممن يحبون السينما ليؤسس بهم' دار السينمائيين' عام2002 ليعيد الاعتبار للسينما التي أصبحت سيئة السمعة قبل سنين بسبب التدني الذي وصلت إليه بعد' همام' في منتصف الثمانينيات بعرض أفلام بورنو تغاضت الحكومة عنها فخلقت جمهورا من السفلة المنحرفين مما أبعد العامة في مجتمع محافظ مثل الموريتانيا الذين يتميزون بالتدين, إلي أن استعاد شباب دار السينمائيين سمعتها الحسنة بمهرجاناتها ودوراتها السنوية ومهرجان' نواكشوط' والذي انقضت دورته الأخيرة وحصل فيها الفيلم المصري' برد يناير' علي جائزته الفضية, وشارك في لجنة تحكيمه المخرج والإعلامي المصري' د.محمد سعيد محفوظ' وقام بالتدريس والتدريب في دوراته مع المخرج التونسي' وسيم القربي' وعدد من السينمائيين الموريتانيين الجدد بعد أن تشكل لهم جيل جديد من الجمهور والفنيين الشباب كانت حيويتهم دافعا للنجاح وحماسهم مفعم بالأمل. وقدم شباب' دارالسينمائيين الموريتانيين' حتي الآن150 فيلما قصيرا في مرحلة الإنتاج التي شاركت كما يقول عبد الرحمن سالم في تمويلها مؤسسات التعاون الفرنسي والأسباني واليونسكو, فضلا عن أفراد ومؤسسات تجارية كرعاة, ولا تتجاوز تكلفة إنتاج الفيلم الواحد2000 دولار, بل أن بعضها يتم إنتاجه بنحو200 دولار فقط, لأن الجميع يعمل دون أجر, ومن هنا تبقي التكلفة فقط هي ثمن الأجهزة وإيجار الآلات. هؤلاء الشباب الذين يمثلون الجيل الجديد من السينمائيين هم في الواقع أكثر من35 شابا ثقلوا هوايتهم بدورات في مختلف فروع السينما في مصر والمغرب والسنغال لأنهم كما يقول محمد إيدوم مدير مهرجان نواكشوط للفيلم القصير: لم نكن نعرف شيئا عن السينما, لأننا خريجو دراسات قانونية وآداب وتجارة, ولم ندرس الفنون السينمائية في معاهد متخصصة لعدم وجودها في نواكشوط, ولكن ميلنا إلي السينما دفعنا لدراستها مثل:' سلمي الشيخ الولي' التي درست القانون, وعملت في إحدي القنوات التليفزيونية, ثم انضمت إلي دار السينمائيين لتحقيق طموحها الفني بعد أن اشتركت في دورات تكوينية في الإخراج, و'سيدي عبد الله التقي' الذي أغواه التمثيل فانضم في البداية إلي المسرح المدرسي وشارك في تمثيل عدد من الروايات ودرس في ليبيا, ويعمل الآن مخرجا بالتليفزيون. ويمثل شباب دار السينمائيين مع مثقفي وكتاب وصحفيي موريتانيا طليعة التنويريين الثوريين في موريتانيا بما قدموا من أعمال إن شابتها هنات بسيطة, إلا أنها تحظي بقيمة عظيمة ستسهم في تحرير العقل الموريتاني المحافظ من موروثات تقليدية, فمن الأعمال التي أنتجها شباب السينمائيين الموريتانيين ما يتناول بالنقد ثقافات راسخة ومستمرة في المجتمع الموريتاني, مثل' التسمين' أو' البلوح', وهو ما تقوم به' البلاحة' النموذج التقليدي لسيدة عجوز تخصصت في رعاية الفتيات الصغيرات من7-8 سنوات في منزلها تعمل علي تسمينهن لمدة شهور متصلة يتناولن الفتيات الصغيرات منهن اللبن بشكل مستمر نهارا واللحم والحبوب مثل' الكسكسي' حتي تظهر أنوثتهن سريعا خلال فترة من6-12 شهرا وتصبح ناضجة جسديا وجاهزة للزواج مقابل عطايا من أهلهن كجمل أو بقرة أو مال. وأقسي ما في البلوح هو إجبار هؤلاء الفتيات بالضرب المبرح علي الأكل غصبا وتدليكهن بشكل معين وفي مناطق محددة من الجسد حتي ينتفخ, وقدمت سلمي الشيخ الولي فيلم' الزرك' ويعالج ظاهرة موجودة في المجتمع الموريتاني خصوصا الأحياء الفقيرة والمهمشة من خلال أشخاص تبدو عليهم مظاهر مرضية فيخافهم الناس وينبذونهم وينعتونهم ب'مصاصي الدماء' عندما يبدو علي شخص أسود إحمرارا في العين مع شحوب في الوجه وهزال وضعف في البنية. حاولت فيه المخرجة عكس معاناة هذه الفئات رغم وجود الوعي الديني والثقافي, لكنه يمثل صراعا عنصريا بين عنصري الوطن الموريتاني الأبيض والأسود الزنجي. ويظهر في أن هذا الصراع لا يستفيد منه سوي السحرة وأدعياء العلاج من الجني, وإن كانوا دجالين ومشعوذين يعيشون علي هذه الفكرة. وقدمت المخرجة' لالا كابر' التي بدأت كصحفية ثم عملت مساعدة في الإخراج ومثلت عدة أفلام فيم' مشاعر أخري', واتهمت من قبل البعض بأنها تدعو الفتيات إلي الانحراف, لأنها جسدت فيه غياب التواصل بين الفتاة وبين أسرتها في مجتمع محافظ يري البوح بالمشاعر فسقا وجرأة ولكنها تجرأت في مناقشتها عن الكبت الذي تعاني منه المراهقات والصديقات اللواتي يجررن البعض إلي ممارسة الحرية' من وجهة نظر مراهقة', فتنتهي إلي الاغتصاب. وبعد كل مامضي يحسب للسينما الموريتانية أنها ناقشت في أفلامها الجديدة كثيرا من مشكلات المجتمع الموريتاني, وهي تخطو الآن خطوات سريعة نحو النضج, ولكنها تحتاج إلي المساعدة التي يراها المخرج وأستاذ السينما التونسي' وسيم القربي' ضرورية لإكمال نهضتها بداية من الاهتمام بها علي المستوي الوطني ومؤسسات الدولة لأن صناعة السينما مكلفة تحتاج الدعم, أو كما يراها الدكتور محمد سعيد محفوظ بإنشاء معهد للسينما في موريتانيا. ويري' الدكتور خالد غريب'مدير المركز الثقافي المصري في نواكشوط ضرور ة إسهام مصر في إنشاء هذا المعهد برعاية من معهد الفنون أو السينما في مصر علي الأقل مرحليا. حيث يقول: هناك ضرورة ملحة لاعتماد شهادات تخرج دارسين موريتانيين بعد دورات تكوينية ودراسية في دار السينمائيين علي يد أساتذة مصريين في أقسام متعددة ومناهج معد السينما في مصر, والمشاركة في تأهيل السينمائيين المحترفين في موريتانيا للتدريس في هذا المعهد بعد إنشائه. ويري د. محمد سعيد محفوظ أن موريتانيا لديها الآن مجموعة محترفة ومؤهلة لذلك, مثل' سالم داندو, وسلمي الشيخ الولي, ولالا كابر, ومحمد إيدوم' ومن هنا لابد من الاهتمام أيضا بالمواهب الصغيرة مثل' نيجامد-15 سنة' والذي قدم فيلما جيدا كمخرج فاز به في برنامج المواهب في التليفزيون الوطني, وكان عن الخيال العلمي.