لقد بات تحقيق الأهداف التي عبر عنها المصريون25 يناير, رهينة إرادة المصريين أنفسهم في الدفاع عنها ومقاومة الالتفاف حولها أو الانحراف بها عن مسارها والإيهام بتحقيق أشكال منها أو تشويه مضامينها. لن يتسني الدفاع ولن تفعل الأهداف بغير إعلاء لسلطان الشعب وتعظيم سيادة الدستور والقانون وحماية استقلال مؤسسة القضاء واحترام حصانة أعضائها وحجية أحكامها, وطي صفحات الماضي والتوقف عن ممارسات التشفي والانتقام وإنهاء التشرذم والصراع, وتخلص المغالبون من منطق الإقصاء والتهميش, وتقديم أسلوب حوار الندية, وصولا لتوحد في الرؤي وتوافق حول الأساسيات.. وفي هذا السياق, تتحمل النخب المسئولية الرئيسية في حالتي الإخفاق والنجاح سواء بسواء.. إن قراءة المشهد تكشف بوضوح عن تعثر تفعيل تلكم الأهداف في الواقع المعاش, وأن اليسير الذي يقال بتحققه منها يبدو أمرا واقعا إما مطارد بالبطلان أو مصاب بعوار يرديه منقوصا أو مشوبا بالشيء نفسه, وذلك علي الرغم من تصريحات بعض المسئولين التي تصف الصورة علي غير حقيقتها. في هذا المناخ المرتبك والضبابي, وكأن أهداف المصريين, أو علي الأقل المرحلية منها, غير كافية للانشغال بها; وكأن مشاكلنا الملحة قد تعاملنا معها وعالجنا مسبباتها وقهرنا تداعياتها; وكأن اقتصادنا قد تعافي ونهض من حالة التردي الموشك علي أخذ الوطن إلي ظلمات الهاوية; وكأن الجمهورية الوليدة قد تجاوزت مرحلة التحول وعرفت طريقها وبدأت تشقه بقوة نحو الاستقرار والنهضة.. نقول يبدو أن نفرا من الناس يري منفردا ومتفردا واقعا مغايرا تولدت به لديه قناعة بكل ما سبق, أو توهم تحققه, فذهب يحلق خارج السياق, يمارس ترف لهو المغازلة, في الفضاء الخارجي فهداه الفكر وتفتق الذهن عن كرم الدعوة لليهود المصريين الذين اختاروا النزوح إلي الدولة العبرية المغتصبة للأرض العربية تلبية لنداء ما يسمي يهود الشتات لبناء كيان استيطاني عنصري يمثل النازية الجديدة للعودة إلي مصر المضيافة مع الاستعداد لتعويضهم عن الممتلكات والأموال..! وفضلا عن غرابة الدعوة وإطلاقها ممن لا يملك لمن لا يستحق, يبدو أن نفرا من الناس لم يقرأ التاريخ ويغفل أو يتجاهل ليس فقط الواقع المصري بل أيضا حقيقة القضية وتعقيداتها ومعطيات الأمن القومي المصري علي وجه الخصوص.. لم يخرج اليهود من مصر قسرا ولم يطردوا منها ولم تسلب ممتلكاتهم أو تنهب أموالهم أو تهدر حقوقهم.. لقد خرجوا منها طواعية للمشاركة في تأسيس وطن يدينون له وحده بالولاء المطلق. كان الأولي مطالبة اسرائيل بالسماح لأصحاب الأرض المغتصبة بالعودة إلي وطنهم التاريخي وتعويضهم بالتطبيق لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم194 في ديسمبر1948.. وبالإضافة إلي الرد الذي جاء سريعا ومستفزا من تلكم الفئة من يهود إسرائيل مطالبين البطل المحب بضمانات يرون استحالة تنفيذها, ومن ثم تراه رفضا مبطنا بترحيب لأنهم قوم يحترفون الابتزاز ويتقنون ممارسته مع كبريات الدول ومحترفي السياسة, فليس من المستغرب أن يطالعنا التاريخ يوما بتسجيل تلكم الدعوة باسم صاحبها باعتبارها وعد تماما, مع قدر من اختلاف الظروف والمضمون, مثل وعد لينين في أكتوبر1917, ووعد بلفورد في نوفمبر من العام نفسه.. ومع ذلك فإني أثق يقينا أن الإسرائيليين يدركون تماما أن فتح هذا الملف لن يكون من مصلحتهم في شيء, وأن لدينا ملفات لن تكفيها موارد دولتهم وتقود بعض قادتهم إلي محاكمات جنائية دولية, سواء تعلق الأمر بجرائم الحرب أو استغلال ثروات شبه جزيرة سيناء سنوات الاحتلال أو سرقة ثروتنا البحرية. إن قراءة موضوعية لتلكم الدعوة توجب وضعها في إطارها الصحيح, والإطار الصحيح هو أنها توحي بأن فصيلا من المصريين قد فتح بابا لمغازلة قوي خارجية, ليس بالضرورة اسرائيل بذاتها ومباشرة, وإنما حلفاء لها يمسكون بمفاصل السياسة الدولية ويوظفونها ويؤثرون بها ومن خلالها في السياسات الداخلية والمصالح الخارجية للدول.. خصوصا إذا تلاحظ أن مصدر العرض يجلس في مقدمة القيادات الأهم في ذاك الفصيل, بل يشغل موقعا رئيسيا في جناحه السياسي وقياديا في مجلس الشوري الذي يسيطر عليه. والقول إن دعوته رأي شخصي يحسب عليه دون غيره, قول يحمل قدرا كبيرا من الاستهانة بالعقول والاستخفاف بمنطق الأشياء, فنحن أمام عضو بارز في تنظيم محكم يمثل مبدأ السمع والطاعة قاعدة العمل الذهبية فيه التي لا مجال معها للانفراد بالرأي أو الخروج علي السياسات والتوجهات العامة للجماعة. كما أحسب أن موجه الدعوة ليس علي هذه الدرجة من سوء التقدير لينفرد بنفسه ومن نفسه بتناول موضوع يتصل مباشرة بالأمن القومي والمصالح الاقتصادية المصرية. اللافت للنظر أن أحدا من القيادات المسئولة لم يعلن رفضه لتلكم الدعوة أو حتي استنكارها, واكتفي البعض بترطيب الموقف وتقزيمه باعتباره رأيا شخصيا ينسب لصاحبه ويقتصر عليه أو أن التوقيت لم يكن مناسبا..! إن احترام مشاعر الأمة وإعلاء اعتبارات أمنها ومصالحها وتقدير أولويات الدبلوماسية السياسية توجب الاعتذار عن الاستهانة بها ومحاولة العبث بمقدراتها. ولعل الأخطر هنا ليس فقط التعامل مع الوطن بمنطق الوصاية علي شعبه والإقطاع لأرضه, بل أيضا فتح الباب لسباق مزايدات المغازلة والنفاق بين المشتاقين لرأس الهرم.. تلك أضغاث أحلام كاذبة يحلو للسياسات الكبري الإيهام بها وتوظيفها ولكنها تدوسها ولا تتردد في إسقاطها متي تحققت أهدافها أو تعارضت مع مصالحها. إن الدعوة الواجبة تحتم تجنب الفتنة وتصحيح المسار بالعودة بصدق والتزام إلي الأهداف النبيلة التي عبر عنها المصريون. إن الدعوة المشروعة, التي يتحمل مسئولية المبادرة بها ورعايتها التيار الذي يمسك بسدة الحكم ويقبض علي السلطة بكل مفاصلها بعد خروجه من دائرة المحظور إلي المسيطر, الالتفاف حول مشروع قومي شامل لانطلاقه معطلة لنهضة مستحقة, تشارك فيه القوي والتيارات والنخب الفاعلة, يتحقق به توافق المصريين بعد صراع والتحامهم بعد فرقة وشتات.. ولن يتأتي ذلك إلا بحوار وطني جاد, شامل وجامع, يعلي مصالح مصر; يعظم الولاء للوطن; ينهي ميراث الحزب الواحد والحاكم الملهم, ويتخلي فيه من تقدموا الصفوف عن منطق الذين يباغتهم النصر صدفة فتعلي لديهم نشوته, والحرص علي الإمساك بالفرصة, النزوع إلي الاستحواذ والتسلط,خصوصا إذا جاء ذلك بعد شدة من قهر ومعاناة من عزلة وإقصاء.. المزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى