من رحمة الله بعباده, ومن سنن الله في كونه, أن جعل في الليل المظلم نجوما تهدي الحياري, ومصابيح تومض بين الحين والحين, كلما سكنت الريح وهدأت العواصف, رحمة من ربك, لمن قدر عليهم السير والحياة في الظلام. عقود طويلة من الزمن ونحن نعيش في الظلام, مفروض علينا أن لا نري إلا ما يري الطغاة والمفسدون, وهذا منطق الجبابرة كما يصوره القرآن ما أريكم إلا ما أري. علي هذا الطريق المظلم الوعر مصابيح يحملها رجال هانت عليهم أنفسهم فبذلوها سهلة في سبيل الله, ولم ينشغلوا بعرض الدنيا وزخرفها ومناصبها, جعلوا من أنفسهم وقودا لمصابيحهم وزيتا لمشاعلهم.. هؤلاء الرجال كثيرون من العلماء والمفكرين والعباد والزهاد, منهم من عرفنا. ومنهم من تواري في ظل مصباحه, ومنهم من اختفي في كومة كراماته وذاب في إنكاره لذاته. من هؤلاء أحد المفكرين الذين أثروا المكتبة العربية والإسلامية بأكثر من350( ثلاثمائة وخمسين) كتابا ومجلدا وموسوعة, يعرفه العجم في الهند وغيرها أكثر مما يعرفه الكثيرون من بني وطنه ولسانه. إنه الأستاذ أنور الجندي الذي نعيش ذكري وفاته هذه الأيام ومن حقه علينا أن نزيح عنه الستار بعدما قامت الثورة وظهر النهار مصابيح علي الطريق هو كتابه الأول والذي كتبه وعمره لم يتجاوز العشرين عاما.. حث فيه علي ضرورة إحياء القيم الإسلامية والأخلاق الرفيعة ورآها مرتكزا رئيسيا لأي نهضة أو تقدم, وبدونها سنظل نعيش في الظلام ظلام الفساد وسوء الأخلاق.. طالب في هذا الكتاب الذي صدر عام1937 بضرورة العودة بأخلاق القرية القديمة من الترابط الأسري والتكافل الاجتماعي والاحترام المتبادل وتوقير الكبير والعطف علي الصغير وتكريم المرأة وتقديس الأبوة والأمومة, الي آخر هذه القيم النبيلة. لم تكن كلماته التي نادي بها في كتابه شعارات جوفاء ولكنها كانت خلقا توشح به وتجسده طوال حياته فبعد أن انتقل الي القاهرة وعاش في حي شعبي فقير في منطقة الطالبية بالهرم, رأيته يهرع مسرعا الي بائعة الخبز والخضراوات ليحمل عنها حاجياتها الي داخل بيته حيث اشتد المطر وكاد أن يتلف عليها بضاعتها البسيطة! لم يتكلم كثيرا ولكنه فعل الأكثر, إنها الدعوة الصامتة التي توتي أكلها كل حين بإذن ربها.. انه الصمت النافذ الفعال الذي يؤتي في النفس أكثر من الحديث الطويل.. هذا هو الخلق الأول الكبير من أخلاق العلماء الربانين, الذي جسدوا أخلاق الحبيب محمد صلي الله عليه وسلم حيث قال( الساعي علي الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل, الصائم النهار. كان هؤلاء العلماء ربانيون بحق لأنهم كانوا أخلاقا نبوية تمشي علي الأرض, وترجمة فعلية لحقيقة الإسلام وأقوال نبيه صلي الله علي وسلم, حين يقول في سياق الأخلاق والرحمة بالضعيف والكبير البركة مع أكابركم, فمن لم يرحم صغيرنا ويجل كبيرنا فليس منا وحين يقول أيضا إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم. هذا هو النموذج الذي عاشه كبار الاخوان المسلمين وملكوا به قلوب الكثيرين, والحذر كل الحذر من الابتعاد الآن عن هذا المنهج الراقي والانغماس في عالم السياسة والمناصب حتي لا ترفع عنهم رحمة الله أو تدعهم يد العون والمساندة والنصرة. لم يترك الأستاذ أنور الجندي رحمه الله ميدانا من ميادين الجهاد الفكري إلا وشارك فيه بنصيب كبير بكل شجاعة وقوة, في الأربعينيات كتب كتابا ثائرا في وجه الانجليز وطالبهم بالخروج من مصر وسماه أخرجوا من ديارنا لم يشأ الانجليز المحتلين أمام هذا الكتاب الجيش والقلعة إلا المسارعة بجمعه من الباعة والمكتبات والزج بمؤلفه الاستاذ أنور في السجن وكان حينذاك شابا صغيرا أو فتي يافعا. تعرض الأستاذ أنور الجندي للاضطهاد بسبب مواقفه الوطنية وانتمائه للاخوان حيث فصل من عمله الصحفي من جريدة الجمهورية, إلا أن ذلك لم يؤثر فيه ولم يثن من عزيمته, فقد عكف علي الكتابة والتأليف في طريق وعر وصعب بسبب التدافع والمغازلة المستمرة بينه وبين أمن الدولة في النظام السابق ومع كل هذا فقد كتب ما قلت أكثر من350 كتابا وموسوعة كان يقول خير للصوت أن يخرج خافتا من أن لا يخرج. وما لا يدرك كله لا يترك كله.. كل هذه الكتب بلا استثناء تبعث في الأمة الأمل في الصحوة والثورة وأن الإصلاح أمر حتمي وفريضة فطرية, وفي هذا الإطار وهذه العقيدة الراسخة جاءت كتبه ومؤلفاته لتكشف زيف الأقلام المسمومة وتوضح أبعاد وتآمر الغزو الفكري والثقافي وتحذر بشدة من التغريب الذي تتعرض له الدول الإسلامية, لم يتوقف الأمر عنده علي كشف أبعاد التآمر علي الشخصية المسلمة والمجتمع المسلم في محاولات المسخ والتشويه والإبعاد عن قيم الإسلام وحقيقته, ولكنه قدم المنهاج الكامل للإصلاح في موسوعته الضخمة نحو منهج إسلامي متكامل. أمثال الأستاذ أنور الجندي كثيرون في مصر وغيرها كانوا بحق علماء ومفكرين ربانيين, أنكروا ذواتهم, ذابوا في معية الله, اجتهدوا في طاعته ورضائه, إنهم رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر, هؤلاء هم مشاعل الهدي ومصابيح علي الطريق. المزيد من مقالات إسماعيل الفخراني