لسنوات طويلة مضت شغل علماء الاجتماع السياسي والعلوم السياسية والاقتصاد والتاريخ بأسئلة مهمة تتعلق بصعود وسقوط الدول والإمبراطوريات الكبيرة وأسباب سقوط الأمم. كما شغلوا بدراسة أسباب التقدم والتخلف والوسائل المثلي لتحقيق النهوض, ولحسن الحظ أضحي في مقدورنا رصد العديد من الرؤي المتوافقة في الإجابة عن كثير من هذه الأسئلة. من أبرز هذه التوافقات ما يتعلق بمحورية مسئولية النظام السياسي في تحقيق التقدم وأيضا في استمرار التخلف, ما هو النظام السياسي الأفضل في تحقيق التقدم؟ وهل التقدم والتخلف مجرد مسألة مكتسبة وإفراز للواقع بما يعني تكريس مفهوم عنصري للتقدم يقول إن هناك أمما وشعوبا متقدمة في أصلها وهناك أمم وشعوب أخري ينخر التخلف في جذورها وأن هؤلاء المتخلفين ليس أمامهم من سبيل غير اتباع النهج ذاته الذي اتبعته الأمم والشعوب التي حققت التقدم؟ وهناك من رفض هذه المقولات التي روجت لها مدارس فكرية غربية وأرجع تخلف الشعوب غير النامية إلي النهب الاستعماري الذي مارسته الدول المتقدمة في العصر الاستعماري, وأن التحرر وإعادة امتلاك الإرادة والسيادة الوطنية هما الدعامتان الأساسيتان للانطلاق من التقدم إلي التخلف. وهكذا أصبحت الإرادة الوطنية وبالذات ما يسمي ب إرادة التقدم هي المدخل الأساسي للشروع في التوجه نحو التقدم. غياب هذه الإرادة يقر كما أوضح المفكر الإسلامي الجزائري الرائع مالك بن نبي بأن هناك أمما لديها قابلية للاستعمار ومن ثم قابلية للتخلف وهناك أمم لديها نزوع التقدم لأنها تمتلك الإرادة الراغبة في التقدم. لكن الإرادة بشكل مبهم وغير محدد المعاني لا تقود تلقائيا نحو التقدم ولكن الإرادة الرشيدة هي وحدها القادرة علي تحقيق ذلك وفق رؤية استراتيجية وطنية للتقدم منها تنطلق نحو تأسيس النظام السياسي الأكفأ والأفضل علي تحقيق هذه الرؤية. من هنا بالتحديد أتذكر الجدل الصاخب الذي استحوذ علي اهتمامات الأساتذة أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور بخصوص الشريعة, والذي امتدت آثاره وتداعياته إعلاميا وشعبيا, وأدي إلي الانصراف عن القضايا المحورية التي كان يجب أن تشغل أعضاء الجمعية والإعلام والمثقفين وبالذات ما يتعلق بماهية هذا النظام السياسي الذي يجب أن نؤسس له كي يكون سبيلنا نحو التقدم, وما هي المؤسسات التي يجب أن تؤسس لتكون روافد هذا النظام في تحقيق التقدم, بل إننا في خضم كل ذلك الصخب نسينا أن نتحدث عن: ماذا نعني بالتقدم, أو التقدم نحو ماذا؟ ولم تجد مثل هذه الأسئلة اهتمامات لدي الجمعية التأسيسية التي لم تنشغل بالبحث في مشروع التقدم والنهوض, كما لم تنشغل بصياغة رؤية استراتيجية من رحم هذا المشروع نبدأ منها مشروعنا الوطني للتقدم والنهوض. كان لي شرف عضوية اللجنة الفنية الاستشارية للدستور( عشرة خبراء ومتخصصين اكتسبوا عضوية الجمعية التأسيسية ابتداء من أوائل نوفمبر2012 تقريبا دون حق التصويت لمراجعة وتنقيح وإبداء الآراء في مسودة الدستور قبل التصويت عليها) وأشهد أمام الله أن السادة العلماء والأساتذة الذين شاركوا في عضوية هذه اللجنة بذلوا جهودا مضنية وأنجزوا في زمن قياسي ثلثي مسودة الدستور لكن للأسف تم تجاهل إنتاج هذه اللجنة ولم يسمح لها بمناقشة وعرض ما أنتجته لا علي اللجنة العامة ولا علي لجنة الصياغة, ورفض طلبها الأخير بترشيح اثنين من أعضائها للمشاركة في لجنة الصياغة المصغرة. كما كان لي شرف إبداء الملاحظة الخاصة بغياب أي مادة عن الصناعة, وتشرفت بصياغة المادة الوحيدة التي تضمنها الدستور عن الصناعة وهي المادة الوحيدة التي أخذتها الجمعية من أعمال اللجنة الفنية الاستشارية. لكن الأهم بالنسبة لي هو ما اقترحته من تطوير للمادة الخاصة بالجهاز المركزي للمحاسبات واقتراح تأسيس مجلس للأمن القومي تكون مهمته وضع الاستراتيجية العليا للدولة والتخطيط للأمن القومي بمفهومه الواسع الدفاعي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي, لذلك اقترحت أن: ينشأ مجلس للأمن القومي تكون مسئوليته وضع الاستراتيجية العليا للأمن القومي بأبعادها المختلفة الدفاعية والأمنية والسياسية والاقتصادية والإشراف علي تنفيذها من خلال ثلاثة مجالس عليا هي: المجلس الأعلي للدفاع والأمن والمجلس الأعلي للسياسة الخارجية والمجلس الأعلي للاقتصاد والتنمية المجتمعية الشاملة( الاقتصادية والسياسية والعلمية والتربوية والصحية والثقافية) ويتولي رئيس الجمهورية رئاسته مع كبار المسئولين في الدولة ورؤساء المجالس العليا الثلاث المقترحة وفريق من الخبراء والعلماء ذوي الكفاءة المميزة لصياغة رؤية استراتيجية وطنية يجري صياغة الاستراتيجية العليا للأمن القومي وفقا لها. وجاءت المسودة النهائية للدستور متضمنة مسمي مجلس الأمن القومي في المادة193 يختص بإقرار استراتيجيات تحقيق أمن البلاد ومواجهة حالات الكوارث والأزمات بشتي أنواعها كما تضمن الدستور نصا يؤسس لمجلس الدفاع الوطني( المادة197) دون أي إشارة لا للمجلس الأعلي للسياسة الخارجية ولا للمجلس الأعلي للاقتصاد والتنمية المجتمعية الشاملة, ما يعني أن المعني المقصود بتأسيس مجلس للأمن القومي علي النحو الموجود في الكثير من الدول المتقدمة لم يصل إلي من صاغوا مسودة الدستور, وما يؤكد أننا سنبقي هكذا أسري صراعات أيديولوجيات الأحزاب السياسية المتنافسة دون ارتقاء إلي توافق وطني قادر علي صياغة رؤية وطنية استراتيجية منها تتم صياغة الاستراتيجية العليا للدولة خلال السنوات العشر والعشرين القادمة, وهي مهمة لا تسقط بالتجاهل أو بالتقادم ولكنها مهمة اليوم وغدا وبعد غد ومسئولية كل منا وفي مقدمتنا جميعا السيد رئيس الجمهورية ومجلس النواب القادم الذي يجب أن يكمل كل نواقص الدستور الذي جري الاستفتاء عليه إلي أن ينعقد العزم لصياغة دستور جديد بديل أكثر دقة وأكثر تعبيرا عن مصر التي نريد والتي لا يمكن أن نصل أبدا إليها دون امتلاك إرادة التقدم ودون صياغة رؤية استراتيجية للمستقبل, وهذا كله سيبقي رهنا لامتلاكنا إرادة وطنية جامعة تعبر عن كل المصريين. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس