لقد ابتلينا في مصر, وفي بلدان عربية أخري, بتوظيف منابر المساجد للدعوة السياسية المتحزبة, بل والتقاتل المسلح حولها, واستغلال المنصات الإعلامية التي يسيطر عليها اليمين الديني المتطرف لتكفير العباد والتعسير علي الناس ولاستثارة النعرات الطائفية والمذهبية. وفي هذا مخالفة صريحة للأمر الإلهي القاطع بألا تستخدم المساجد للدعوة لغير الله, وبغير الحكمة والموعظة الحسنة. ومن مخاطر الانكفاء علي الولاءات الأدني من المواطنة المتساوية والتوظيف السياسي للدين أن تغذي التعصب الأعمي الذي يقوم بدوره علي الجهل بصحيح العقيدة أو التحريف المغرض لها, ما يذكي الفتن الطائفيةوالتقاتل الأهلي. انظر في فساد دعوة بعض غلاة السلفيين في مصر مثلا لتحريم مجرد تهنئة الإخوة المسيحيين بأعيادهم, إلا بغرض الهداية, ورذيلة التقاتل الطائفي في بعض البلدان العربية وفي مقابل هذا التطرف الديني المقيت, أورد اليوم اقتطافات مطولة من خطبة صلاة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله, ألقيت يوم2012/12/21, قبيل الاحتفالات بمولد المسيح عيسي بن مريم عليه السلام وليس لي من فضل إلا الانتقاء والنقل. عل متطرفينا, ومن يقفون وراءهم, يرعوون ويرتدعون رضوخا لتعاليم الله جل جلاله! في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول(ديسمبر), نستعيد ذكري ولادة نبي من أنبياء الله العظام, عيسي بن مريم. هذه الولادة التي لم تكن ظروفها عادية, هي ولادة معجزة بكل مجرياتها... وهذه المناسبة هي مناسبة للمسلمين كما هي للمسيحيين. ثم إن حب المسلمين للسيد المسيح, ليس حب مصلحة, أو مسايرة, ولا انعكاسا لواقع طائفي أو سياسي, إنه جزء من ديننا, من إيماننا, تعلمناه من القرآن, كتاب الله الذي يحدثنا عن موقع هذا النبي: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسي ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين--(آل عمران:45). هو حب تعلمناه من رسول الله(ص), كان يكنيه بأخي, وكان يقول: أنا أولي الناس بعيسي ابن مريم, وعندما كان علي يصفه, كان يقول: كان إدامه الجوع, وسراجه بالليل القمر, وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها, ولم تكن له زوجة تفتنه, ولا ولد يحزنه, ولا مال يلفته, ولا طمع يذله, دابته رجلاه, وخادمه يداه.... لقد تحدث الرسول(ص) والأئمة طويلا عن السيد المسيح(ع), عن عظمته, عن مواقفه, عن حكمته التي نحتاج إليها اليوم, ونقف عندها لنتعلم منها, وما أكثرها!: بعض الناس, أيام السيد المسيح, كانوا يستغلون بيت المقدس لممارسة معاملاتهم الربوية, حتي إن هناك من الكهنة اليهود من كان يستفيد من موقعه الديني لتحقيق مطامع خاصة. وكانوا يستغلون احترام الناس لمواقعهم, ظنا منهم أنه لن يتجرأ عليهم أحد. كانوا يتلطون خلف المقدس لتحقيق الإثراء, ويمالئون السلطة, ولو اضطرهم الأمر لتحريف ما جاء به نبيهم موسي.. واكتشف السيد المسيح الأمر, ورغم شخصيته المتسامحة التي عرف بها, دخل بيت المقدس علي هؤلاء حاملا سوطه, وطردهم من الهيكل, وكان يقول: أخرجوا اللصوص من الهيكل. درس آخر نحتاج إليه في أدبياتنا الاجتماعية والسياسية. مرة, اجتمع كثير من الناس ليرجموا امرأة ثبت عليها حد الزنا, وبدا عليهم الغضب والشماتة, وقبل البدء في التنفيذ, وقف السيد المسيح بين الجموع محددا شرطا للذي يريد أن يشارك في الرجم, قائلا: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر. هكذا كان السيد المسيح يعلم الإنسان كيف يحاكم نفسه قبل أن يحاكم الآخرين. لذلك لم يرجمها أحد.. لماذا؟ لأن كلا منهم رأي خطاياه في هذه المرأة, وقد توازي خطيئة تلك المرأة أو أكبر منها. أيها الأحبة, عندما جاء رسول الله بالإسلام, جاء مصدقا للتوراة والإنجيل, وسعي لعلاقة مميزة مع الديانة المسيحية, إذ يقول القرآن الكريم: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصاري ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون--(المائدة:82). أيها الأحبة: إن نظرة الإسلام إلي المسيحية جزء من منظومته التربوية والروحية, وهي ليست حالة استثنائية, فالدين واحد, تدرج الأنبياء في تبيان أحكامه وشرائعه, إلي أن اكتملت صورته بما جاء به رسول الله خاتم الأنبياء. قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون--(البقرة:136). وأكثر من هذا, فالإسلام يعتبر أنه لا يكتمل إيماننا حتي نؤمن بهم جميعا: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله...--(البقرة:285). ثم إن الإيمان ليس مجرد فكرة وإحساس, إنما هو تعبير في السلوك, فالقطيعة ممنوعة, والهجران والتدابر حالة شاذة لا شأن للدين بها, فالتلاقي والتواصل علي المبادئ المشتركة هو الأساس: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله...(آل عمران:64). هذه السياقات كلها والتوجيهات, تحتم علينا أن تكون علاقتنا, مسلمين ومسيحيين, علاقة مسئولة, تنطلق من قواعد العيش وليس مجرد تعايش الضرورة.أيها الأحبة, إن الحديث عن كل هذا المظهر الوحدوي, لا يعني عدم وجود اختلافات قد تمس العقيدة, كما تدخل في تفاصيل الشريعة, إلا أننا ندعو إلي أن يبقي الحوار الفكري والعقيدي والتشريعي مفتوحا علي طاولة البحث العلمي, بعيدا عن أجواء التوتر والشحن الطائفي. أيها الأحبة, في هذه الذكري الجامعة المتفقة علي صاحب الذكري وعلي قيمه, قيم المحبة والرأفة والتسامح, فإن مسئوليتنا كمسلمين أن نشيع مناخ التواصل والود والتآلف, بدلا من أجواء الرفض والإنكار التي تولد شعورا عند المسيحيين, بعدم الأمان أو الاستقرار أو الخوف علي المستقبل والمصير.. علينا جميعا أن نقف بوجه كل الإلغائيين والإقصائيين ورافعي رايات العنف.. وبدلا من أن نواجه بعضنا بعضا بالخوف والخوف المضاد, والتهديد والرد عليه بين ساحات وجودنا شرقا وغربا, فلنعمل معا لإنقاذ هذا العالم مما يعاني, من اللاروح, واللاقيم, واللاأخلاق, وتراجع العلاقات الإنسانية...تعالوا لنقف صفا واحدا في مواجهة الذين يريدون تهويد مهد السيد المسيح, وتهويد القدس, ولنعمل علي إعادتها إلي إشراقة الرسالات..تعالوا لنقف صفا واحدا في مواجهة الاستكبار, فهو ليس مسيحيا ولا إسلاميا, إنما هو أزمة للبشرية...لنصغ إلي محبة السيد المسيح, ورحمة السيد المسيح, وعنفوان السيد المسيح في وجه الباطل, لتسلم الحياة وتنمو.في ذكري يوم الميلاد, نتوجه بالتهنئة للمسلمين والمسيحيين, سائلين الله سبحانه وتعالي أن يعيد هذا العيد علينا بالوحدة والألفة والمحبة والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا* ذلك عيسي ابن مريم--(مريم:33-34). المزيد من مقالات د . نادر فرجانى