توالت جولات الحوار الذي دعا إليه رئيس الجمهورية, في غياب قطاع كبير من قوي المعارضة الحقيقية, بما يعيد للذاكرة دعوات الحوار التي كان يتبناها صفوت الشريف وتدور رحاها من الفراغ وإلي الفراغ.. وتندر أهل المعارضة علي ذلك الحوار بأنه مثل حوار جورج الخامس مع جورج الخامس, أي أن الحزب الحاكم ينظر إلي المرآة ويتحدث مع نفسه, أو مع بعض الأطراف من الأهل والعشيرة.. وفيما يتهم أهل الحكم المعارضة بأنها ترفض الحوار وتكتفي بالموقف السلبي, تعتبر المعارضة أن الدعوة للحوار شكلا وموضوعا لا تستوفي شرائطها, وأنه مجرد حملة للعلاقات العامة تمارسها الحكومة للخروج من مأزق فشلها. هذا الحوار المستمر أصبح حالة شبه مرضية!!.. بدلا من أن يكون الحوار مقدمة للفعل, أصبح( الحوار) هو الفعل.. الفعل الوحيد للأسف.. تدور طواحين المثقفين بلا توقف, تنسكب بحار ومحيطات من المداد في الصحف والمجلات والكتب والفضائيات, في ماراثون الحوار الذي يتجه فيه العداؤون الي اتجاهات شتي, حتي ليبدو الأمر أحيانا وكأنه مجموعة من المونولوجات, يتوهم أصحابها المشاركة في حوار.. ربما نلتمس العذر للتنوع الذي يفرضه ايقاع التطورات في مصر, أو حداثة فعل الكلام, أو غموض الرؤي, أو.. ربما نستند الي ضريبة التخلف, والمنطقة الاجتماعية التي تفرز جل إن لم يكن كل المتناظرين, وربما عوامل نفسية كاليأس أو الرغبة في الانتحار حوارا, إلا أن هذه الأعذار والعلل هي التي تستدعي بالدرجة الأولي ضرورة الحوار, ولكن أي حوار؟ مع من؟ وكيف يدار؟.. إنه حوار لا يمت بصلة لذلك الذي وصفناه منذ قليل, فلقد آن لتلك( المكلمة) أن تتوقف.. كفانا تدريبا لحناجرنا.. يجب أن نتحدث بشكل جاد.. الحوار أسلوب متحضر يستخدمه البشر لتجسير العلاقات فيما بينهم, وصولا الي حد معين من التفاهم حول قضايا معينة.. واذا كان المنطق هو أهم أسلحة الحوار, إلا أن المصلحة هي الأساس الذي يقوم عليه أي حوار, وهي الغاية منه أيضا, فتعارض المصالح أحد أسباب الحوار, وإن كان ذلك لا يمنع نشأة الحوار في حالة اتحاد المصالح, ويكون سببه في هذه الحالة المنظور المختلف لنفس المصلحة ما بين طرفين, والمصلحة بالطبع ليست مجرد تعبير مادي وإنما تعبير شامل للعنصرين المادي والمعنوي سويا. إذن لنشأة أي حوار جدي يجب أن تحدد أولا المصلحة المختلف أو المتفق عليها بشكل واقعي, بمعني أن يكون لأطراف الحوار تصوراتهم الموضوعية للمصلحة التي يدافعون عنها, وهو ما يخرج من الحوار الادعاء أو التسويق بمعناه التجاري, فمن المعروف أنه يمكن التسويق لبضاعة رديئة من خلال دعاية محكمة, وهو ما لايمكن تصوره في مصالح المجتمع الأساسية, فالمتحاور ليس مندوبا للاعلانات, وإنما هو صاحب قضية حقيقية يؤمن بها ويدافع عنها. وتحديد المصلحة يتطلب الموضوعية من زاوية أخري, وهي اعتبار وجهة النظر الأخري تعبير حقيقي للمصلحة, وليس افتراض اسقاطها منذ البداية, وإلا سقطت معها ضرورة الحوار, وهذا الاعتبار وإن كان لا يعني اعتناق تلك الوجهة المعاكسة, فإنه لا يعني مجرد مجاملة السماح للآخر بإبدائها. المسألة ليست مجرد الاختلاف مع الاستعداد للموت في سبيل أن يعبر الآخر عن رأيه بحرية كما ذكر فولتير, فالمطروح ليس مجرد حرية التعبير كحق أساسي من حقوق الانسان, وإنما المصالح الضرورية للمجتمع التي يسعي الي تحقيقها من خلال الحوار, وهو ما يقتضي القبول بما يمكن أن نسميه نقطة التوازن أو التوافقCompromise فليس حتميا أن تكون نتيجة الحوار تطابقا لوجهة نظر ابتدائية, وإنما هي في الأغلب العام بلورة له في شكل يختلف كثيرا أو قليلا للمواقف الابتدائية للمتحاورين, أو هو نوع من الحوار ليس فيه خاسرون ورابحون بالمعني الحرفي, لأن التوصل الي نوع من الوفاق هو نجاح للحوار بغض النظر عن فشل متحاور أو آخر في فرض بعض النقاط في هذا الوفاق. وتحديد المصلحة يتطلب أيضا أن يكون المتحاور علي بينة من الحد الأدني والحد الأقصي لمطالبه, فالأول( الأدني) ينبغي ألا يتدني عن خط معين يصبح الرجوع عنه اضرارا فادحا بالمصالح التي يدافع عنها, أما الثاني( الأقصي) فلا ينبغي المبالغة فيه بالشكل الذي يصرف الآخرين عن الحوار, أو يدفعهم لمبالغة مماثلة, وفي الحالتين هي مضيعة لوقت ثمين لا تتحمله مصالح الشعب. فإذا لم يحدد المتحاور تلك الخطوط, فإنه إما أن يتصلب في قالب جامد يمثل الحد الأقصي لمطالبه, وهكذا يفقد الحوار أي مغزي أو جدوي, أو أن يسقط في هوة التنازل عن الحد الأدني, وبالتالي يفشل الحوار في تحقيق الوفاق الحقيقي المطلوب, حيث سيبقي هذا المتحاور ومن يمثلهم خارج هذا الوفاق بالضرورة. ويندرج فيما تقدم مقدرة المتحاور علي الموازنة ما بين نجاح الحوار مع تنازله عن بعض مواقفه الابتدائية, وبين فشل الحوار وأثر ذلك علي المصالح التي يدافع عنها, وهنا يجب أن تتسم نظرة المتحاور بالشمولية التي تتجاوز اللحظة الآنية للحوار, وتتطلع الي نقطة توازن أخري في المستقبل قد تتيح له تحقيق بعض ما تنازل عنه في التوازن الحالي, إذ لابد من التسليم بأن الوفاق يكون ذا سمة مرحلية, بعكس الخلاف الذي يتسم بالديمومة لطبيعة ديمومة وتطور المجتمع البشري نفسه في مستوياته المختلفة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ان بعض ما نراه حولنا يبدو وكأنه سوق مضطربة لتسويق الكلام, لا شك أن لبعضه قيمة هائلة في ذاته, لكنه يفقد الكثير من هذه القيمة باعتباره جزءا من الحوار الوطني, فليست النوايا الطيبة وحدها مصحوبة بصياغات ذهبية هي مقدمات الحوار أو أدواته, وإنما كيفية الطرح العلمي, وتفعيل القطاع الأكبر الايجابي من الرأي العام للتأييد, التجدد المستمر اضافة وحذفا, الأخذ والعطاء, التقدير الموضوعي لموقف الضد, السعي الواعي لنقطة التوازن في المجتمع.. لقد تكلم( المتحاورون) كثيرا.. ربما أمكنهم يوما أن يتحدثوا معا بشكل إيجابي, وفق المعايير السابقة أو أي معايير أخري تتوخي الأهداف نفسها. المزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق