أكتب هذا المقال قبل ثلاثة أيام من انتهاء عام2012 ومقدم عام2013, وسأجلس مع أقرب الناس إلي نفسي لنحتفي في منتصف الليل بمجيء عام جديد علي العالم. ونرجو جميعا أن يحمل العام الميلادي الجديد الفرح والخير والسعادة لكل المصريين, وهو الأمر الذي نفعله في رأس السنة الهجرية بلا فارق. وقد توارثنا عادة تهنئة إخوتنا الأقباط بأعيادهم كما لو كانت أعيادنا, فنحن لسنا أبناء وطن واحد فحسب, ونتشارك في معاني وقيم المواطنة, وإنما نحن من عائلات متداخلة, لا نعرف أي فارق أو حاجز يفصل بيننا. وفضلا عن إيماننا بأن الدين لله والوطن للجميع, فقد تعلمنا أن نفرح بأعياد إخوتنا في الوطن, ونشارك فيها كأنها أعيادنا, والعكس صحيح بالقدر نفسه. ولذلك أحتفل مع إخوتي الأقباط بعيد ميلاد السيد المسيح, وبدرجة كبيرة من الفرح, متذكرا أنه ثاني أهم الأعياد المسيحية بعد عيد القيامة, ولا أنظر- بوصفي مثقفا مسلما- إلي القيامة بمعناها الحرفي, وإنما بمعناها المجازي والرمزي, مؤكدا المعاني الدينية والروحية السامية التي تعطف الإسلام علي المسيحية والمسيحية علي الإسلام, فكلنا نعبد الله الواحد الأحد, وكلنا يؤمن بالرحمة والمحبة والتسامح والعدل, وكلنا يؤمن بوطن واحد نعيش فيه بقدر ما يعيش فينا. ولذلك كانت أعياد المسلمين أعيادا للمسيحيين في التراث المصري الذي نعرفه, وأعياد المسيحيين أعيادا للمسلمين, ومن المؤكد أن جند عمرو بن العاص, كانوا يعرفون أن النبي- صلي الله عليه وسلم- قد تزوج مارية القبطية التي أرسلها له مقوقس مصر, وأن المسلمين الأوائل قد نصحهم نبيهم الكريم بالهجرة إلي الحبشة النصرانية, خاصة بعد أن اشتد عليهم التعذيب والاضطهاد قائلا لهم: لو خرجتم إلي الحبشة, فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد. وبالفعل, أكرم النجاشي المسيحي المسلمين المهاجرين, في هجرتهم الأولي والثانية, وعاملهم بكل محبة وتقدير لدينهم الجديد: مع دخول الأفكار الحديثة عن الوطن والمواطنة والوعي الوطني. ومع تأسيس الدولة الوطنية وزيادة الوعي بها, في مواجهة الغزو الصليبي الذي حاربه المسلمون والمسيحيون معا, تأصل مفهوم الوطنية الذي تمت صياغته في مواجهة الغزوات الاستعمارية اللاحقة والاحتلال الأجنبي, وربط مفهوم الوطنية المصرية بين الجميع في مواجهة المحتل البريطاني, فلم تعرف مقاومة المحتل فارقا بين مسلم ومسيحي في ثورة.1919 واستبدل الوعي الحديث بكلمة النصاري كلمة المسيحيين الأحدث بسبب عمليات التطور اللغوي. ولم يزل الخطر الأجنبي يقوم بالتوحيد بين المصريين جميعا من دعاة الدين لله والوطن للجميع ووحدة الهلال والصليب الذي أصبح شعار الوفد في ثورة.1919 وها نحن نعود إلي هذين الشعارين في مواجهة غزو من نوع جديد,هوغزو إسلام الصحراء الذي يهاجمنا بأفكار التطرف الديني والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد, وتلقين السذج مبادئ التمييز اللاإنساني حتي ضد أبناء الوطن الواحد, رافضين قولا وفعلا مبدأ المواطنة بكل ما ينطوي عليه من وحدة أبناء الوطن. ولا أري في هؤلاء المتطرفين من الذين يحملون إسلام الصحراء الوهابي, تحت أقنعة سلفية, سوي خطر يهدد هذه الوحدة, ويقوم بتنفيذ أهداف الاستعمار القديمة المبنية علي مبدأ فرق تسد. والحق أنني- من هذا المنظور- قرأت ما نشرته جريدة الوطن في عدد2012/12/27 عن هيئة سلفية تري أن تهنئة النصاري بأعيادهم حرام. وجاء في تفصيل الخبر أفتت الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح السلفية بعدم جواز مشاركة أو تهنئة النصاري وأهل الملل في مناسباتهم الدينية. والهيئة تضم عددا من قيادات التيار السلفي وجماعة الإخوان المسلمين, وذكرت الفتوي: أن الأصل في الأعياد الدينية أنها من خصوصيات كل ملة ونحلة. وقال الرسول- صلي الله عليه وسلم: إن لكل قوم عيدا; فكل أهل ديانة شرعت لهم أعياد ولم تشرع لغيرهم, فلا تحل مشاركة ولا تهنئة في هذه المناسبات الدينية التي هي من أخص ما تتمايز به الشرائع باتفاق.., وأضافت الفتوي: المسلمون الذين لا يعتقدون في صلب السيد المسيح- عليه السلام- لا يحل لهم بحال التهنئة بقيامته المدعاة. والحق أني لا أجد أسخف من هذه الفتوي القائمة علي التدليس. نعم, شرع الله لكل أمة عيدا. والله- سبحانه وتعالي- يقول: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم...( سورة الحجرات). والتعارف يعني المودة وتبادل علامات المحبة والمودة التي من بينها تبادل التهنئة في المناسبات الدينية رغم اختلاف الأديان. فهذا هو معني الإنسانية التي تنطوي عليها آيات كثيرة في القرآن الكريم. ولذلك يتبادل أبناء العالم كله التهنئة في الأعياد الدينية رغم اختلاف الديانات, ما ظلت تجمعهم أواصر صداقة تنشأ عن التعارف. أما إخوتنا الأقباط فلهم وضع خاص, فهم منا ونحن منهم, فضلا عن أنهم أقرب إلينا من أبناء الديانات الأخري. ويكفيني التذكير بالحديث الشريف: أوصيكم بأقباط مصر خيرا, فإن لكم فيهم صهرا ونسبا. وأمر النسب لا يقتصر علي زمن الرسول- صلي الله عليه وسلم, وإنما يجاوزه إلي زمننا. وليس علي المسلم حرج في أن لا يعتقد في صلب المسيح حرفيا, ولكن عليه أن يحترم عقيدة إخوته في الوطن الذين تربطه بهم رابطة الوطنية التي لها قداستها في الدولة الحديثة. ولذلك فأنا لا أري في فتوي الهيئة السلفية- بوصفي مسلما يحترم دينه الاحترام الذي يليق به- سوي نوع من الانحراف عن صحيح الدين. وأري في الفتوي دعوة إلي الفتنة وتمييزا ينبغي أن يعاقب عليه القانون, لو كنا في دولة ديمقراطية حديثة تقوم علي احترام المواطنة. أما وأن هذه الدولة لم توجد بعد, فلا أملك سوي أن أوافق الدكتور أحمد كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر الذي قام بواجب الرد علي هذه الفتوي الخاطئة التي لا أساس لها من الشرع, ورأي أن عدم التهنئة غلظة ونطاعة. ولذلك أقول بملء الفم: عيد سعيد يا إخوتي المسيحيين, وأدعو الله أن يخلصنا وإياكم في العام المقبل من شرور أصحاب هذه الفتوي ومن أي نظام حكم يدعمها أو يسمح بها. وأختم المقال بما بدأت به مهنئا كل المصريين بعيد ميلاد السيد المسيح, وانتهاء عام وقدوم عام جديد, نرجو أن يكون حاملا التقدم, مؤكدا معاني الوحدة بين جميع أبناء مصر. المزيد من مقالات جابر عصفور