لظروف شتي محلية وإقليمية ودولية متداخلة ومتشابكة في آن واحد, تحدد مسار الثورة المصرية في طريق أحادي حتي إشعار آخر- ألا وهو طريق الصراع الثقافي والفكري بين الإسلام السياسي بتياراته المختلفة والمتباينة وبين القوي المدنية الليبرالية واليسارية والقومية, وهو الصراع الذي تصدر المشهد السياسي في مصر,ما أن وضعت الثورة أوزارها بانهيار رموز النظام السابق, وتوارت إلي حين الأبعاد الأخري للثورة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي انطوت عليها شعارات الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية; تلك الشعارات التي لخصت بعبقرية وعفوية توق جموع المصريين إلي الكرامة والتحرر من الظلم الاجتماعي والتهميش, وجمعت مطالبهم المشتركة والمشروعة في صيغة بسيطة في ظاهرها ولكنها عميقة في محتواها, وتجاوزت بطريقة بناءة القوالب الإيديولوجية الجامدة والسابقة التجهيز. طريق الصراع الثقافي والفكري الذي دخلت فيه الثورة مرغمة نتيجة الظروف الداخلية والإقليمية والدولية أعاد إنتاج وصياغة الإشكالية الكبري التي شغلت الفكر العربي النهضوي التي تراوحت بين اقتباس التنظيم العصري والحديث عن الغرب والطرق والمناهج المعرفية والأفكار التنويرية حول الإنسان والمجتمع والدولة وبين تجديد الذات الحضارية الإسلامية والعربية والاحتفاظ بالهوية والخصوصية, ورفض الانغلاق والانكفاء علي الذات وتأكيد التفاعل الثقافي والحضاري باعتباره ضرورة للتقدم والانطلاق نحو العصر الحديث, ومقدمة للإسهام في قيمه وثقافته استنادا إلي عالمية الإسلام وقيمه الكونية. علي الأرجح لا يعني تصدر الصراع الثقافي والفكري المشهد الراهن غياب أو احتجاب الأبعاد السياسية والمصالح المختلفة لدي الشركاء في الثورة, أو اختفاء العناوين الأخري للصراع بين قوي الإسلام السياسي والقوي المدنية بمختلف توجهاتها; ذلك أن النزاع الثقافي حول هوية الدولة والمجتمع وحول الموقف من الغرب المعاصر وقيم حقوق الإنسان والمبادئ التي تتأسس عليها, يقف وراءه أمران أولهما اختلاف المصالح وثانيهما اختلاف المفاهيم, ويبدو تقديم الاختلاف الثاني أي المفاهيمي والقيمي في حقل السياسة أكثر عملية وأعظم فائدة من اختلاف المصالح; لأنه يتيح إمكانية اكبر للحشد والاستعمال والاستغلال والتعبئة المعنوية والرمزية, حتي في تلك الحالات التي يغلب عليها الأسباب السياسية والمصلحية, فالاختلاف المفاهيمي يوفر أقنعة لنزاع وتنازع المصالح ويمنح هذا النزاع طابعا عقديا ومبدئيا ويخفي طبيعة النزاع والمصالح والتطلعات الدنيوية. لم ينس الثوار المصريون في أوجه صراعهم مع النظام القديم وفي اللحظات الفاصلة من هذا الصراع, أن يؤكدوا في شعاراتهم وصرخاتهم الطابع المدني للدولة المصرية, الذي أخذت به الدولة المصرية في طورها الحديث منذ محمد علي, ذلك الطابع المدني المتدرج والاقتباس الواعي عن مؤسسات الغرب وثقافته في إطار الاحتفاظ بالخصوصية الثقافية والحضارية والحرص علي استنبات,ما تم اقتباسه في الثقافة الوطنية لتسويغ هذا الاقتباس وجعله مقبولا من عموم المصريين, وذلك عبر التاويل واستنهاض القيم الإيجابية في تقاليدنا وميراثنا الحضاري بالذات في أوج تألقه وإشعاعه عبر العالم. استوعب وعي الثوار في كلمتين حول طبيعة الدولة المصرية وهما مدنية مدنية أو بالأحري كلمة واحدة ترددت عشرات المرات, ذلك التاريخ الطويل للدولة المدنية المصرية في كل حلقاتها منذ بدايات القرن التاسع وحتي القرن العشرين; أي طوال ما يفوق القرنين, وأدركوا عبر ترديد هذا الشعار عمق التوازن والاتزان والموازنة التي دأبت جميع التيارات الإصلاحية والحديثة برؤي متباينة علي إتباعها وتطبيقها في التربة الوطنية التي نبتت فيها الدولة المصرية الحديثة, ذلك التوازن الذي تأسس علي اقتباس المبادئ الحديثة في التنظيم والمعرفة دون تجاهل اعتبارات الأصالة والهوية والخصوصية الحضاربة, بين الانفتاح علي العصر الحديث والحضارة الحديثة دون التفريط في النواة الثقافية الوطنية المنحدرة من عصور غابرة ودون أن تكون هذه النواة عقبة في الأخذ والاقتباس والاستيعاب والتمثل للجديد الوافد ودون أن يطغي هذا الجديد الوافد علي الركائز الثقافية والحضارية القائمة في النسيج الوطني. ورغم كل ذلك فقد أسفر مسار الثورة والتطورات والأحداث عن سيطرة فريق من المصريين من ذوي الاتجاه الإسلامي بتنوعاته المختلفة علي تحديد هوية الدولة المصرية وطبيعتها وتقليص طابعها المدني وتغليب طابعها الديني علي ما عداه, ووضع نواة وأساس للدولة الدينية تحت حجج استعادة هوية الدولة وطابعها الإسلامي واختزال هوية الدولة والمجتمع في بعد واحد ألا وهو البعد الإسلامي وتجاهل طبقات التنوع والهوية في التكوين التاريخي والاجتماعي لمصر والمصريين. ينزع هذا الفريق بصرف النظر عن درجة تنظيمه وقوته المالية والتعبوية نحو الاعتقاد بوجود مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين وهذه المؤامرة يقودها الغرب عبر التحديث والحداثة والمفاهيم المتعلقة بحقوق الإنسان, وأن هذه المؤامرة تستعين بأدوات محلية ممثلة في التيارات المدنية والعلمانية والليبرالية بهدف تغييب الطابع الإسلامي للدولة والمجتمع. ولا شك أن هذا النمط من التفكير يتجاهل حقيقة امتداد الغرب في داخل مجتمعاتنا ثقافيا وقيميا وأننا ننتج ونستهلك ما أبدعه الغرب في ثوراته العلمية والصناعية المتعاقبة منذ القرن الثامن عشر, وأنه ليس بمقدور أي مجتمع أن يكتفي ذاتيا في ظل الحضارة الحديثة وأنه يتعين علي الجميع الإسهام في تلك الحضارة الحديثة التي تمثل جماع الإسهامات الكبري للثقافات والحضارات المختلفة. وأعتقد أن تصدر الصراع الثقافي والفكري حول هوية الدولة والمجتمع المشهد المصري الراهن بحد تفسيره في غياب البرامج والرؤي السياسية والاجتماعية والاقتصادية للحكم والإدارة لدي قوي الإسلام السياسي, أو إدراك هذه القوي لصعوبة تبني سياسات جديدة وجذرية تقطع مع السياسات السابقة للثورة, ومن ثم فإنها تري أن إنجازها الأكبر قد يكون ذلك الإنجاز المتعلق بالهوية والجانب الرمزي والمعنوي والشعائري والطقوسي طالما تستعصي الإنجازات في المجالات المادية الملموسة للمواطنين. وضعتنا الثورة بشبابها ووهجها وشعاراتها في قلب العصر وقيمه وإنجازاته وتضعنا الرؤي الأحادية الضيقة والبسيطة علي مشارف الخروج من العصر. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد