في الماضي تعرض المفكر الكبير احمد لطفي السيد الاب الروحي لليبرالية المصرية للسقوط المدوي في الانتخابات البرلمانية وكانت تهمته التي اسقطته انه ديمقراطي وكانت الكلمة سيئة السمعة بسبب هجوم المتشددين ضدها والآن تعود الكرة مع مصطلحات اخري كالليبرالية المتهمة بتخريب مصر, والعلمانية المتهمة بالكفر, مع ان الليبرالية لا تعني التخريب بل تعني إستعادة الانسان لكرامته الانسانية وحريته مثلما لا تعني العلمانية الكفر بقدر ما تعني حماية الدين من النفاق السياسي وحماية الدولة من سيطرة فصيل ديني علي الامور تأويل منفرد للدين والسياسة معا الدكتور ياسر قنصوة أستاذ الفلسفة بكلية الاداب جامعة طنطا من الليبراليين المهتمين بنشر قيم الحرية والديمقراطية وتأصيل الفكر الليبرالي في الوقت ذاته منهجيا وعلميا هذا حوار معه لتصحيح اللغط المثار حول مصطلح الليبرالية وهل هي ممكنة الحدوث في العالم الاسلامي بشكل عام ومصر بشكل خاص هذا اللفظ الذي يتردد في الشارع المصري الآن: الليبرالية ماذا يعني ؟ أولا من غير المقبول أن يجري علي الألسنة مصطلحات أو لفظ من دون دراية بمعناها أو فهم لأسباب وظروف النشأة, فما من مصطلح تعرض لانتهاك المتواصل من كل( من هب ودب) وتم تعميم هذا الانتهاك علي المستوي الشعبي ليصل إلي حد الاتهام بالكفر لأولئك الليبراليين الذين ليس لهم ملة أو دين وكل هذا من أجل أغراض سياسية لا علاقة لها بالليبرالية الليبرالية ليست دينا كما أنها ليست مذهبا واحدا متماسكا ينتمي إليه أنصارها فهي حال أو موقف عقلي يقوم علي التجريب والتعددية فالليبرالي لا يقول هذا صحيح في موقف ما, بل يقول انه يبدو لي أن هذا الرأي أصح من غيره. إنها وجهة نظر, رؤية لما هو سياسي, اقتصادي, اجتماعي لحل مشكلة انسانية ومن هنا تتعدد وجهة النظر, ويمارس الفرد من خلالها حرية التفكير والعمل والتعبير عن ذاته: إنها حريات مسؤلة لا إباحية كما يحب البعض أن يفهم, هذه الحريات هي التي أتاحت للإنسان في العصر الحديث فرصة التقدم والازدهار لكن عندما اتسع مجال الحريات ولحقت به حريات من النوع المرفوض أو المستهجن في مجتمعنا كحرية الشذوذ, ترك المغرضون الحريات الإنسانية الأصيلة وتم الاكتفاء بهذا النوع من الحريات المستغربة وتم إلصاقها بالليبرالية لتصبح دلالة عليها من باب الجهل والغرض. نعود للسؤال عن أسباب وظروف نشأة الليبرالية ؟ في ظل سيطرة الكنيسة والاقطاع في أوروبا عبر قرون كان لابد من حل.. وقد جاء هذا الحل من خلال عصر النهضة الذي تبلور في القرن السابع عشر ليقدم لنا طبقة صاعدة هي الطبقة الوسطي أخذت تبسط وجودها ونفوذها علي المجتمع الأوروبي ثم جاء عصر التنوير في القرن الثامن عشر لينفذ خطة السيطرة من قبل الطبقة الوسطي مع مقاليد الأمور علي حساب لنظام الاقطاعي. و النظام الكهنوتي أو سلطة الكنيسة, أما القرن التاسع عش فقد كان قرن تألق الليبرالية وهيمنتها كروح مميزة لهذا القرن. هذا بالنسبة للغرب أما بالنسبة لنا فالأمر مختلف.. كيف؟ بعد مجيء الحملة الفرنسية إلي مصر عام1798 وذهابها ومع مغامرة التحديث التي قام بها محمد علي تسربت إلينا أفكار الليبرالية من خلال البعثات العلمية إلي فرنسا وعلي رأسها التي شارك فيها رائد النهضه رفاعه الطهطاوي نقل إلينا الطهطاوي صورة للمشهد الليبرالي وقد كان هذا مهما للغاية فقد أحدثت صورة هذا المشهد ثقبا في جدار عزلتنا التاريخية لكن المشكلة مع الليبرالية منذ لحظة محاولت تعريب الليبرالية فقد أدخلنا هذا الأمر في نية المصطلحات المهجنة لفظا وغير المفهومه تطبيقا مثل السلفية الليبرالية( قارن جماعة سلفيوكوستا الآن) الليبرالية الإسلامية( تأمل اطلاق هذا الاسم علي التجربة الماليزية, الإندونيسية) مع جملة من تأويلات للشوري بوصفها ديمقراطية ونواب الأمة هم أهل الحل والعقد, وحرية التفكير هي الاجتهاد.., وعند تعريف الطهطاوي للحرية في الغرب فإنها من وجهة نظره مساوية لسلطة المستبد العادل الذي تتحقق علي يديه حرياتنا بعدله و إنصافه..لقد قدمت لنا القراءة العربية الأولي الليبرالية دليلا يرشدنا إلي معرفة التحرر علي الطريقة الغريبة لكنها لم تقدم لنا ما بفيدنا في العمل بعد قراءة هذا الدليل, أي إفادة عملية عن كيفية التعامل مع هذا الكم من الحريات, وكيف نتعامل معها في ظل مجتمعنا المختلف؟, عرفنا معني التحرر, وأهمية الدستور, و جدوي المشاركة السياسية لكننا لم نعرف ما الذي علينا أن نفعله بالحريات, بالدستور, او بالمشاركة السياسية ؟, كانت أول محاولة لإقامة مشروع ليبرالي فرصته ضائعه, وعلي نحو مواز كانت الليبرالية مقترنه في أذهان شعوبنا بجانب آخر مظلم هو الاستعمار, والاستعباد, والثروات المنهوبه فصار لليبرالية وجهها المضيئ علي المستوي النظري لكنه قبيح علي أرض الواقع, من استعمار مريض إلي رأس مالية متوحشه. نسمع الأن هذا السؤال الذي يصنف الناس: أنت ليبرالي أم إسلامي؟ أولا: هذا سؤال خاطئ تماما في طرحه فالإسلام دين يمكن مقارنته في علم مقارنة الأديان السماويه الآخري بينما الليبرالية التي لا تعد دينا أو مذهبا واحدا إذ توجد ليبراليات بعدد البيئات الاجتماعية المختلفة فهناك الفرنسية, البريطانية, الألمانية.. وهناك ليبرالية محافظة, اجتماعية, تشاركية وأيضا بعدد الكتاب الليبراليين التي تمثل ليبرالية كل منهم وجهة نظر قائمة بذاتها الليبرالية يمكن مقارنتها بالإشتراكية أو الديمقراطية الاجتماعية مثلا. هذا النوع من الأسئلة الخاطئه لا يسفر فحسب عن اجابات غير صحيحه بل لا تصح معه الاجابه علي الإطلاق. يتحدث البعض عن تجربة مصر الليبرالية قبل1952 ماذا عن هذه التجربة؟ ربما كانت البداية الاستفادة من المشهد الليبرالي الغربي هو أن الدولة الحديثة استطاعت توسيع قاعدة ارتباطها بالناس علي نحو مؤثر وفعال مع تفكيك الروابط الجماعية والتقليدية كالعصبية و القبلية, ومن ثم جاءت فرصة الاندماج في مؤسسات الدولة الحديثة, وكانت أولي المحاولات قادمة من جهة النخب المتعلمه و المثقفة والنخب المالكة أيضا, هذا ما تجسد في أول حزب مصري هو حزب الأمة الذي تأسس في عام1907 وكان حزب تأسس علي مبادئ ليبرالية صاغها أحمد لطفي السيد ورعاها ماديا ومعنويا أحد كبار الملاك في مصر وهو محمود سليمان( باشا). وقد حاول لطفي السيد أن يمزج بين المبادئ الإسلامية, والتنوير الفرنسي والليبرالية البريطانية غيرأن, التجربة ما لبثت أن كشفت عن الهوة السحيقة بين الجماهير والنخبة, فقد كانت ليبرالية خاصة تليق بنخب سياسية, اقتصادية, اجتماعية و ليست كما حدث في أوروبا من حراك جماهيري أخرج إلي حيز الوجود طبقة وسطي قادرة علي السيطرة والتقدم إلي الأمام. كانت ليبرالية الغرف المغلقة بمثابة الحاجز أمام الالتحام بالشعب المصري من أجل صياغة مشروع وطني قائم علي مفهوم المواطنه( أو الحقوق والواجبات الليبرالي) وهذا ما حدث بصورة آخري مع حزب الوفد الذي تأسس علي مبادئ ليبرالية فقد كان هدفه بعد دستور1923 أن ينفذ إلي السلطة من خلال محاولة توفيقية أقرها الدستور ذاته للجمع بين الاستبداد والديمقراطية وقد شارك حزب الوفد أو حزب الأغلبية من خلال هذه المحاولة التوفيقية ليتحول الأمر إلي ليبرالية اجرائية سياسية تكتسي وجها ديمقراطيا شرعيا يلخص عبارة ذات معني( إن ما تجمعه الحاجة السياسية النفعية لا يفرقة المبدأ الليبرالي). ومن التعريب إلي التوفيق استمر الحال الليبرالي رهينه العمل النخبوي دون أن يطأ بقدمه أرض الواقع الجماهيري. هذه هي مشكلة الليبرالية الكبري في مجتمعنا. هل اصبح المشهد السياسي المصري منقسما بين تيارين: الإسلام السياسي من جهة والتيار الليبرالي من جهة اخري ؟ لا يوجد في مصر الآن سوي آلة التصنيف البشعة والتي تعمل لاغراض ومصالح سياسية فحسب لا لمصلحة أمة في خطر بالفعل. نعم هناك من يتحدث عن مرجعية إسلامية بمعني أو آخر ومن يتحدث عن حريات مدنية وآخر يتحدث عن الأثنين معا وهناك من يتحدث عن حرية وعدالة اجتماعية أوديمقراطية اجتماعية, كل هذا يؤمن لمصر تعدديتها التاريخية كبلد حضاري لكن أن تقول مثلا ان عمرو حمزاوي ليبرالي فحسب لإدانته أو عن أبو عبد المنعم أبو الفتوح كأخواني يؤمن بالحريات المدنية( الليبرالية) للتشكيك في أمره, كل هذا هراء لا يمكن أبدا أن تقارن جوانيات الناس أي ايمانهم الداخلي بظاهر ما يطرحونه من افكار و وجهات نظر لتفسير الشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي. في ظل حالة الاضطراب والقلق الحاليه هل ثمة امكانية لتأسيس مشروع ليبرالي في مصر ؟ لابد من الإلتفات إلي كلمة مشروع إذ أن المشروع يعني نوعا من الشراكة علي مستوي التخطيط والتنفيذ أو العمل.. إننا نتحدث عن توافق من نوع مختلف, فعندما توافقت إرادة الجماهير في الغرب ظهر المشروع الحديث الذي استطاع الغرب من خلاله أن يتقدم ويسيطر, أن الشعار الليبرالي المعروف: دعه يعمل دعه يمر الذي يحد من تدخل الدولة في المشروع الخاص الحر ويتيح الفرصه للملكية الخاصة أن تحقق المصلحة العامه لم يلبث أن تحول إلي استغلال واحتكار تحولت فيه الدولة إلي مجرد سمسار للشركات الكبري وسقطت الطبقات الدنيا في هوة النسيان. إن ما يمكن أن يقال أنه يمكن لفرد مسلم أو مسيحي أن يفكر بطريقة ابداعية متحررة- ليس من الضرورة تسميتها ليبرالية- ليعالج ظروف أو مشكلات عصرية بحرية وتعقل ومسؤليه, ولا ننسي ونحن نتحدث عن الليبرالية أن نقول أنها في محاولتها المستمرة للملاءمة والمواءمه أخرجت لنا بمساهة الإشتراكية ديمقراطية اجتماعية تؤمن الحريات الفردية وتؤكد علي العدل الاجتماعي من خلال دور فعال للدولة, كل هذا لا يمثل قيمة إلا من خلال مشروع وطني يستوعب أفراد المجتمع المصري ويستثمر طاقاتهم وفقا لتخطيط وتنفيذ ملائم ليس مهم لهذا المشروع أن يكون ليبراليا أو غير ليبرالي مع وجود الحلول الليبرالية بمرونتها وانفتاحها كعنصر يمكن استدعاؤه متي لزم الأمر. مرة أخري ليست الليبرالية مذهبا اوعقيدة مطلقة لكنها موقف عقلي يتعامل مع ظروف متغيرة بطريقة منفتحه وبأسلوب ملائم.