انهت الجمعية التأسيسية أعمالها وقدمت إلي السيد رئيس الجمهورية مشروع الدستور الذي ثار حوله العديد من الاعتراضات والتشكيك في كونه دستورا يعبر عن مصر الثورة أم عن فصيل واحد فقط سيطر وهيمن علي اعمال الجمعية التأسيسية من بدايتها وصولا إلي نهايتها. وكانت هذه الاعتراضات والتشكيكات نابعة من أهمية الدستور علي أساس كونه: أولا, الدستور هو القانون الأساسي الذي يوفر اطارا للقوانين والسياسات التي يتعين تطبيقها, ويضمن التشغيل السلس للنظام السياسي عن طريق ممارسة السياسة من خلال المؤسسات المنصوص عليها, فضلا عن تقديم آليات لحل الخلافات والمنازعات. وهو ما يمثل ركنا اصيلا في تحديد مشروعية سياسات الدولة استنادا إلي القواعد والمعايير الدستورية. وثانيا, أنه عملية كاشفة لتوجهات القوي السياسية والاجتماعية الفاعلة في البلاد, وهي لحظة تنافس وصراع بين مختلف القوي, حيث يسعي كل منها لتضمين أكبر قدر ممكن من معتقداتها وآرائها في الدستور. وبالتالي يحدد شكل نظام التصميم المؤسسي الجديد مدي دعم التطور الديمقراطي من عدمه. وثالثا, أنه أداة للحد من حيازة الحاكم لسلطات مطلقة, إلي جانب اعتباره وثيقة تؤكد معاني الاستقلال والوطنية فقط, ومن ثم فيفترض أن تعبر الصياغات الدستورية عما اتفقت عليه القوي السياسية الفاعلة. ومن الاهمية الثلاثية للدستور يتبين أنها ليست وثيقة تكتب في فراغ أو في غرف مغلقة, وإنما تعكس البيئة السياسية والاجتماعية وتوازن القوي السياسية والاجتماعية, وانماط الصراع والاستبعاد والادماج الموجودة داخل المجتمع. ومن ثم ينظر إلي الدستور علي اساس كونه كائنا اجتماعيا مشكلا من القوي المجتمعية, ويتم تفسيره, وتحليل انماطه من خلال تحليل تلك القوي الاجتماعية. وبعد التطورات الصعبة التي مرت بها مصر عقب الاعلان الدستوري الصادر في21 نوفمبر الماضي, وبعد الحوار الوطني الذي اسفر عن اعلان دستوري جديد في9 من ديسمبر الحالي, اضحينا قاب قوسين أو أدني من الاستفتاء الدستوري المحدد له يوم15 ديسمبر الحالي للاستفتاء علي مشروع الدستور المتنازع عليه, ومن ثم يمكن الحكم علي هذا المشروع في ضوء الخمسة معايير لأي دستور ديمقراطي. أولها: سيادة الشعب, التي اشير إليها في أول المباديء في ديباجة المشروع, وتأكدت في نص المادة الخامسة, وفي دورية انتخابات البرلمان بمجلسيه النواب والشوري, وفي تمثيل عضو البرلمان للشعب بأسره. ثانيها, سيادة القانون, التي اشير إليها في المبدأ السادس في ديباجة المشروع, ونص عليها في المادة74 وفي المادة.23 ثالثها, الحقوق والحريات وحمايتها, اشير إليها في المبدأين الثالث والرابع من ديباجة المشروع, ونص علي العديد من الحقوق الجديدة كالحق في الحصول علي المعلومات المادة47, والتفصيل في المادة35 المتعلقة بعدم جواز تقييد حرية أحد, والمادة36 الخاصة بمحددات تقييد الحرية, وحرية الاعتقاد في المادة43, وحظر الإساءة للرسل في المادة44, ونص في الفصل الرابع عن ضمانات حماية الحقوق والحريات. رابعها, التداول السلمي للسلطة, اشير إليها في المبدأ الثاني في ديباجة المشروع, ونص عليها فيما يخص انتخاب رئيس الجمهورية ولا يجوز اعادة انتخابه إلا لمرة واحدة( المادة133) والمادة227 التي حددت أن لكل منصب ولاية محددة إما غير قابلة للتجديد أو قابلة للتجديد لمرة واحدة فقط, وكلها امور تضمن التداول السلمي للسلطة بشكل عام. خامسها, الفصل بين السلطات, يتأكد في العديد من المواضع, فيتأكد في حالة البرلمان بعدم قدرة الرئيس علي حل مجلس النواب إلا بعد استفتاء الشعب, وبقرار مسبب( المادة127), وفي المادة148 لا يجوز حل مجلس النواب اثناء سريان حالة الطواريء. وفيما يخص السلطة القضائية نص علي كونها مستقلة, والقضاة مستقلون, وتقوم كل هيئة قضائية علي شئونها كما هو مبين في المواد169,168,.170 حتي في حالة الهيئات المستقلة يشترط موافقة مجلس الشوري علي تعيين رؤسائها من قبل الرئيس, رغم النص علي استقلاليتها في المادة.200 واعتقد رغم مطابقة مشروع الدستور المصري مع المعايير الخمسة للحكم علي ديمقراطية أي دستور إلا أنه لم يخل من عيوب, ولعل ابرزها: بداية, الديباجة وانفصالها عن التاريخ الوطني المصري الحديث علي الاقل, واكتفاؤها بالنص علي ثورة يناير والفترة الفرعونية. وثانيها, نص المادة132 والتي تتضمن أن رئيس الجمهورية يرعي الحدود بين السلطات, ومن ثم وضعته في مكانة فوق السلطات الثلاث. وثالثها, عدم النص علي تعيين نائب للرئيس في الدستور أو مساعدين له. وفي النهاية, نترك الرأي لجموع الشعب المصري بحسه العالي, وذوقه الرفيع, ليرسم النظام السياسي الجديد بعد تنازع النخب السياسية حول مستقبله, غير عابئة به, ويحدد مصير مشروع الدستور بنعم أم لا, وعلي الجميع احترام النتيجة أيا كانت. خبير في الشئون السياسية