منذ سنوات طويلة ومصر تتعرض للتصحر السياسي والفكري والاجتماعي والعلمي وعليها اليوم أن تدفع الثمن غاليا ففي أزمتها الراهنة غاب المفكرون وعلماء الدين والسياسيون وتصدر المشهد ضيوف البرامج الحوارية ليملأوا أدمغة الناس تشويشا وبهتانا, ودعاة شعبيون أغرتهم دنيا السياسة فنصبوا أنفسهم أوصياء علي الدين والسياسة واجترأوا علي الفتوي, لايجدون في تراثنا الفقهي إلا غريب الرأي وفاحش القول, وسياسيون طامحون لم تمكنهم تجربة بلادهم التسلطية من اكتساب الخبرة اللازمة ووقع المصريون فريسة لآلة إعلامية جهنمية تخفي وراءها مصالح الفرقاء من الداخل والخارج. علي مدي عشر سنوات وخلال الفترة من2001 وحتي2010 أنشئت في مصر40 شركة للبث الفضائي تقوم ببث69 قناة تليفزيونية أي بمعدل7 قنوات كل سنة. وبعد ثورة يناير وخلال ثلاثة أشهر فقط من مارس وحتي مايو2011 أنشئت16 شركة لتبث22 قناة تليفزيونية فهل تحولت صناعة التليفزيون إلي صناعة مربحة إلي هذا الحد حتي تنشأ16 شركة في ثلاثة أشهر وفي ظل ثورة صاحبها تراجع اقتصادي حاد ؟!.. الحقيقة أن صناعة الفضائيات ليست أبدا من الصناعات المربحة اقتصاديا حتي تجتذب هذا العدد من الشركات في ثلاثة أشهر. فإذا نحينا الأرباح المتوقعة لتفسير هذا التزايد الكبير في عدد الفضائيات لم يتبق لنا سوي عالم السياسة الذي يؤكد أن وراء تلك القنوات أهدافا سياسية وليست اقتصادية هذه الأهداف السياسية ليست متناغمة وإلا كانت قد اكتفت بعدد محدود من القنوات ولكنها متعددة وبالضرورة متعارضة حسب المصالح الكامنة وراءها. عالم السياسة يوفر لنا أسبابا أخري لظاهرة توجيه قنوات تليفزيونية غير مصرية إلي المصريين. ففي مصر قناتان مخصصتان للشأن المصري إحداها من شبكة الجزيرة والأخري من شبكةMBC فالمصريون الذين اعتادوا مشاهدة القنوات العامة لهاتين الشبكتين تحولوا إلي قنواتهم المصرية يجدون فيها ما يريدون معرفته في ظل أجواء من الحرية النسبية مما حدا بهاتين الشبكتين إلي اتخاذ قرار بتوجيه محطات خاصة بالشأن المصري للمصريين, نظرا لما تمثله الدولة المصرية والشارع المصري من أهمية في المنطقة العربية بأسرها, وهو درس وعته الحكومات العربية أثناء حرب الخليج سألت يوما علي شاشة التليفزيون مدير إحدي هاتين القناتين عن السبب الذي من أجله تتحمل مؤسسة إعلامية تلك النفقات الهائلة لتوجيه قناة تلفزيونية مجانية للمصريين, فكان الرد مثيرا للتعجب حيث قال إن السبب هو الحق في المعرفة أي حق المصريين في أن يعرفوا ولم أشأ أن أسأل ولماذا المصريون دون غيرهم من العرب؟ ازدحم الفضاء المصري بعشرات القنوات المسيسة في الوقت الذي تراجع فيه أداء الإعلام الحكومي الرسمي كثيرا, فبدأت الحكومة تشكو من سطوة الإعلام حين فقدت قدرتها علي التوجيه والسيطرة, وحين عجزت أيضا عن تطوير خطابها السياسي ليلائم المرحلة الجديدة القائمة علي المنافسة وليس علي الاحتكار, وجاءت الأزمة الدستورية الأخيرة لتضع الإعلام المصري غير الحكومي في دائرة الاتهام بالإثارة والتحريض, وهي قضية لايمكن أن تؤخذ علي هذا النحوعلي رغم ما نلمسه من شطط في أداء بعض تلك القنوات. فالحكومة المصرية تبدو هذه الأيام بلا إعلام حقيقي. ولاتستطيع حكومة في العالم أن تحيا بدون قنوات اتصال مع شعوبها فوسائل الإعلام تمثل الجهاز العصبي لأي حكومة ومن هنا فإن الحكومة المصرية تعاني أزمة حقيقية فقد ورثت تركة إعلامية ثقيلة لن تستطيع إصلاحها إلا بعد سنوات وإذا ما استطاعت ذلك فإنها ستكون قادرة علي المنافسة, وسوف تتوقف عن اتهام القنوات الفضائية والصحف الأخري في كل أزمة تواجهها. في الأزمة الدستورية الأخيرة لم تكن وسائل الإعلام السبب في ظاهرة انقسام المجتمع إلي فريقين, كما أنها لم تكن أبدا من قبل السبب في انقسام التيار السياسي الإسلامي إلي خمسة أو ستة أحزاب وهي غير مسئولة أيضا عن انقسام تنظيمات وأحزاب الثوار إلي نحو تسعين جماعة وتنظيما وحزبا وهي ليست مسئولة أيضا عن مشاعر الكراهية التي بدت واضحة في الشوارع والميادين بين الفريقين المتصارعين علي الهوية السياسية المصرية. فقد علمنا الدعاة أن ناقل الكفر ليس بكافر. هناك قليل أو كثير من التحيز لفريق دون الآخر في التغطية الإخبارية للقنوات الخاصة, ولكن ذلك القدر من التحيز واضح أيضا في قنوات حكومية واخري خاصة للفريق الآخر. التحيز وارد لدي الجميع, ولكن الاتهام موجه فقط للقنوات ذائعة الانتشار والتي تبدو نسبيا متحيزة ضد الفريق الذي يوجه لها الاتهام. كنت أتمني علي القنوات الفضائية أن تستشعر شيئا من المسئولية في تغطية بعض الأحداث التي لاترتبط بجوهر الأحداث, مثل التركيز علي ذلك الرجل الذي وقف في مسوح الدعاة في ميدان التحرير يدعو علي المصريين اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبقي منهم احدا فهذا شطط لايستقيم مع صحيح الدين. سوف تنتهي الأزمة علي أي وجه وسوف نواجه تداعياتها الهائلة, وعلي وسائل الإعلام أن تنتبه إلي مسئولياتها تجاه وطن يتعرض للخطر. كيف للرئيس أن يحكم هؤلاء الذين احتربوا فيما تبقي في حكمه من سنوات. وكيف يخرج بهم من الأزمة الطاحنة التي تحيط بهم؟!, كيف يحكم وقد نالت الخلافات من جلال القضاء وتراجعت هيبة الدولة إلي حد أنها تتسول الأمن والنظام من عامة الناس؟!, ما هي ملامح الإصلاح الذي ننتظره وقد أصبح إصلاح التعليم ترفا والبحث العلمي شططا وإطلاق طاقات المصريين وإبداعاتهم أحلام يقظة وتشجيع الاستثمار ؟!,كذبا كان ماجري منذ الإعلان الدستوري أزمة ولكنها دفعت بنا إلي حدود المحنة وأبواب الفتنة التي لن تغلق بانتهاء أزمة الدستور. فقد وضع الجميع هوية مصر علي طاولة المفاوضات والصراعات وكأن مصر دولة تحررت اليوم من استعمار طويل طمس هويتها وغير لغتها وبدل ثقافتها وكأن القرون والأجيال التي تعاقبت فيها كانت قرونا لاهية وأجيالا عابثة. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين