بقلم شريف الشافعي : دعيت منذ أيام إلي التحدث في فيلم تسجيلي عن الراحل الكبير خيري شلبي( يناير1938- سبتمبر2011), فوجدتني مع طيف شيخ الحكائين في ملكوت قصيدة, وليس في رحاب قصة أو سيرة كالمتوقع. خيري شلبي شاعر, مثلما يري الشعر ذاته, علي الرغم من أنه لم يصدر أي ديوان. بدأ قصيدته بقلمه كشاعر حالم, وأتمها بقلبه الذي وسع العالم, واهبا الوجود للشعراء, والشعراء للوجود. كتب خيري شلبي الشعر في مرحلة مبكرة, وأطلقه ساخنا في قصصه ورواياته مع أنين العاديين والمهمشين, ومارسه إنسانا في حياته كلها, وتلك ملحمته الأنقي والأبقي. قصائده التي اختطها بحبره قليلة, ختمها باعتزال شفيف, في حين جاءت خطوات عديدة له فوق هذه الأرض فيوضات شعرية, فهو الشاعر فعلا لا قولا, يكون الشعر حيث يكون. وبتوليه الإشراف علي تحرير مجلة الشعر, سقطت الكلفة تماما بينها وبين القارئ, فكأنما الشعر يدير ذاته بذاته علي مدار أكثر من خمسة عشر عاما(1990-2005). آمن خيري شلبي بأن الشعر جوهر قبل أن يكون نظرية, وبأن الذائقة النقية لدي المتخصص والقارئ علي السواء قادرة علي التفرقة بين الأصالة والزيف, فلا يمكن خداع متلقي الشعر بسهولة, فهو يحمل في ضميره حصاد مئات السنوات التي تألق خلالها فن العربية الأول, كما أحب دائما أن يسميه. الشعر اتقاد ودهشة, وحياة تورق حينما تورق الحياة, وحينما يورق ضدها. يقول في قصيدته عندما يورق الموت( التي استعان بها في مجموعته القصصية السنيورة بعد سنوات من كتابتها): انفض الليل/انسحبت ظلمته من بطن الكون/ وحطت في صحن الدار والنسوة أشباح/ بقع من طين أسود/ محفوف بالزرقة/ كلمات تتساقط في لوعة/ تتناثر/ تتكاثر/ تتلوي في ذعر/ وتصوت في سمع الصبح. اعتزل خيري شلبي الشعر ليتفرغ للقصة والرواية وفنون أخري, لكنه لم يتخل عن شعريته. لقد ظلت الشعرية حساسيته التي يفعل بها عمله ويصرف أمور يومه, ويفصل بها بين الأصيل والزائف من المعادن, والأشياء, والبشر, والكائنات جميعا. بميزان الشعرية, وحدها الشعرية, كانت صفحات مجلة الشعر تتسع للموهوبين بقدر ثقلهم ونقاء جوهرهم, وإن كانوا مغمورين أو لم ينشروا من قبل. أيضا البورتريه, الذي كان يرسمه أسبوعيا في مجلة الإذاعة والتليفزيون, كان تجليا لتلك الحساسية الشعرية, فالرجل لم يكن يقف عند ملامح عينية, بقدر ما كان يغوص ويستبطن ويستشف ويقرأ جوانيات الشخصية, بأبجدية تتخطي معطياتها التوصيلية, وتحلق في فضاء لا يبلغه إلا الشعراء النابهون. لقد ظلت الشعرية تراود خيري شلبي في كتاباته, وتراوغه, لكن إطلالتها الأوضح كانت فيما يفعل, لا ما يكتب, فما يفعله الرجل فوق صفحة الحياة هو الشعر, وإن كان ما يكتبه في أوراقه قصة أو رواية أو مقالة. وبتنامي موسوعيته الثقافية وانغماسه المذهل في القراءة المجدولة والتعمق المعرفي, بقيت الشعرية ألصق بروحه الطلقة الهاوية, المتحررة من الشروط والإطارات, فهو شاعر خارج المراسم والكارنفالات, مثلما أنه يميز الشعر الحقيقي والبشر الحقيقيين ويسمي الوجوه بأسمائها بفطنة القلب البريء والروح الخضراء. كم من شاعر صغير أتي إلي القاهرة من الريف أو من الصعيد النائي وبحوزته سلة أحلام وقصيدة واحدة أو اثنتان, فإذ بخيري شلبي الكبير يحتضنه ببساطة, وينفخ فيه من روحه, وينشر أعماله, بل وينوه به أيضا في افتتاحية مجلة الشعر( كما حدث مع كاتب هذه السطور). ويكبر الشاعر وينضج, وتبقي كلمات خيري شلبي ملء وعيه ولا وعيه: احرص علي تفردك ونصاعة رؤيتك, احذر التبدد في مقاهي المدينة كالدخان, شر العدوي هي عدوي الشعراء بعضهم البعض, نقاء قصيدتك من نقائك, هناك مهن استهلاكية منهكة قد تقتل الشعر إياك أن تمتهنها!. أي شعر يكتبه الشاعر بعد ما فعله الرجل من شعر ذي لحم ودم وعطر؟! الشعر المعاملة, درس من كلمتين, شرحه خيري شلبي بعدد الحصص اليومية التي اتسعت لها حياته الخصبة.