الانقسام أصبح اللغة السائدة في مصر الآن, فبعد أن انقسم الشارع إلي معارضين للإعلان الدستوري الجديد في التحرير, ومؤيدين لهذا الإعلان أمام جامعة القاهرة, انقسم أيضا القضاة إلي معارضين لإشراف القضاء علي استفتاء الدستور, ومؤيدين لهذا الإشراف, مما زاد من كثافة الضباب الذي يتربص بالمصريين ويمنعهم من رؤية مستقبلهم بوضوح, ويضفي هالات من التشاؤم والخوف علي مصيرهم. إلا أن موافقة مجلس القضاء الأعلي مؤخرا علي مشاركة القضاة وأعضاء النيابة العامة في الإشراف علي الاستفتاء سيبعث علي الطمأنينة ويخفف من روع المصريين, وقد أتت مشكلة موقف القضاة من الاستفتاء واحتمالات رفضهم للمشاركة, كحلقة من أزمة متصاعدة يعيشها مشروع الدستور المصري الجديد منذ محاولة إنجازه وتشكيل جمعيته التأسيسية الأولي التي ألغيت بحكم قضائي, ثم انتخاب الجمعية الثانية لصياغة الدستور, التي رفعت ضدها أيضا دعاوي للإلغاء, وسط اتهامات متصاعدة بأن الجمعية الثانية تضم فصيلا واحدا هو التيارات الإسلامية من حزب الحرية والعدالة وحزب النور السلفي, ومع تعارض الإرادات, جاء التحدي الأكبر الذي واجه مشروع الدستور الجديد لمصر وهو الصراع عليه من قوي مختلفة, فمن جانب ظهرت القوي الليبرالية المدنية التي تطالب بدولة مدنية تعلي شأن الحريات والحقوق الإنسانية والمساواة بين الرجل والمرأة, وعلي الجانب الآخر قوي التيارات الإسلامية, ومنها الجماعة الإسلامية وحزب البناء والتنمية التابع لها والجبهة السلفية, التي طالبت بإعلاء تطبيق الشريعة, وصبغ الدستور الجديد بصبغة دينية تضفي علي مصر ملامح الدولة الدينية, وقد حاولت كل قوة فرض رأيها بوسائل مختلفة, فالانسحابات من الجمعية التأسيسية هو ما فعلته القوي المدنية التي ضمت العديد من الأحزاب ومنها حزب الوفد, كما عبرت القوي الإسلامية عن موقفها من الدستور في جمعة تطبيق الشريعة يوم9 نوفمبر الماضي, والتي ركزت فيها علي إبعاد كلمة مبادئ الشريعة من المادة الثانية لتكون الشريعة مباشرة, كما اشترطت في بند المساواة بين المرأة والرجل أن يكون ذلك مشروطا بما لا يخالف الشريعة الإسلامية, وبين هذا وذاك قام حزب الحرية والعدالة وحزب النور السلفي داخل الجمعية التأسيسية بمحاولة التوفيق بين جميع الأطراف بكل وسائل الطمأنة والتفاوض. نحن الآن علي مفترق طرق نمر بالمرحلة الأخطر في مصير الدستور الجديد, وتتعلق بالاستفتاء عليه من الشعب, لأنه بدون هذا الاستفتاء لن تصل مصر إلي دستورها المنشود, وبانتقال مشروع الدستور للتصويت الشعبي, يصبح أمام الشعب فرصة ليقول نعم, وبذلك نكون قد كتبنا أول دستور لمصر بعد ثورة يناير, أما إذا رفضه الشعب وقال لا, سيتم إنشاء جمعية تأسيسية جديدة لتدخل مصر في جدل دستوري شائك ربما أكثر خطورة مما سبق, وسنضطر للعمل بدستور مؤقت هو( دستور71) مع إضفاء بعض التعديلات الضرورية عليه, والتي تخص الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ومدة حكم الرئيس, وهي النقاط التي لا خلاف عليها بين جميع الأطراف. إذا كانت مصر تعيش اليوم لحظة فارقة في حياتها بين أن نقول نعم أو لا, لحظة سنواجهها يوم الاستفتاء في15 ديسمبر الحالي, فإنه في كل الأحوال يجب أن نحافظ علي مصر موحدة سالمة, بعيدا عن نيران التعصب وحرائق الصراعات السياسية, يجب أن نحافظ علي مصر ونحميها من تصفية الحسابات ومرارة الأحقاد, لأن مصر التي منحتنا المحبة والأمان والسلام يجب ألا نسمح لأحد بأن يطعنها في الخفاء, ويجب أن نتذكر دائما أنه حتي الدساتير ليست فيها كلمة أخيرة, فهي تخضع للتعديل والتبديل وفق المراحل التاريخية والظروف الموضوعية التي يعيشها الشعب, ولو كانت الدساتير خالدة لما تعرضنا اليوم لإعادة صياغة دستورنا بعد دستور1923 وما تلاه من دساتير, ومشروع الدستور الحالي الذي ينتظر التصويت فتح الباب علي مصراعيه للتعديل, وذلك بالمادة217 التي تنص علي أنه لكل من رئيس الجمهورية ومجلس النواب طلب تعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور, ويجب أن يذكر في الطلب المواد المطلوب تعديلها وأسباب التعديل, فإذا صدر طلب التعديل من مجلس النواب وجب أن يوقعه خمس عدد الأعضاء علي الأقل, أي أن مائة عضو بمجلس النواب تقريبا سيمكنهم تقديم طلب لإجراء تعديل علي الدستور, فمصر باقية والدساتير تتغير, فلا يعقل أن نحرق الوطن اليوم من أجل ما يمكن أن نغيره غدا. المزيد من مقالات د. عبدالغفار رشدى