كانت أولي زياراتي للولايات المتحدةالأمريكية عام1983 عندما كان رونالد ريجان رئيسا لها. بالطبع كنت قد قرأت عن هذه الدولة الكبيرة وعن نشأتها الحديثة وعن تاريخها وخاصة تلك الحروب التي شنها المهاجرون البيض الأوائل ضد السكان الأصليين لإبادتهم والاستيلاء علي هذا البلد الممتد من المحيط إلي المحيط. كما قرأت عن حرب تحريرها من الإمبراطورية البريطانية ثم عن حربها الأهلية بين شمالها الصناعي وجنوبها الإقطاعي المؤسس علي عبودية الأفارقة. وهو تاريخ حديث للغاية بالمقارنة لتاريخ الدول القديمة التي تكونت حول الأنهار أو تلك الأخري التي تشكلت في قلب العالم القديم وأقامت حضارات تاريخية. وشاءت أن تكون أولي زياراتي هذه إلي ولاية كاليفورنيا أغني الولايات وأكثرها تأثيرا في المجمع الانتخابي الرئاسي. ببساطة انتقلت خلال أربع وعشرين ساعة من القاهرة, قلب الشرق الأوسط, إلي أقصي الطرف الغربي للولايات المتحدةالأمريكية. هكذا بلا توقف إلا في نيويورك لساعتين لتغيير الطائرة. قيل لي في هذه الزيارة إن العشرين عاما التالية ستشهد وجودا كثيفا للمهاجرين من الغرب, آسيا, ومن الجنوب, بلدان أمريكا اللاتينية, وربما تصبح اللغة الأسبانية, لغة كل بلدان أمريكا اللاتينية ماعدا البرتغال, هي اللغة السائدة في الشارع الأمريكي الغربي كما يصبح الآسيويون واللاتينوز الغالبية العديدة في هذه المنطقة. ثم تكررت زيارتي للغرب الأمريكي هذا عام1999, امتدت الزيارة من الشمال الغربي بدءا من ولاية واشنطن مع حدود كندا إلي لوس أنجلس جنوبا في كاليفورنيا, فعايشت ذلك التكهن الذي قيل لي عام.1983 بات حقيقة لا تخطئها العين. بات المواطنون الأمريكيون البيض من النساء ومن الأطفال ومن الرجال أقلية ملحوظة. حتي من بين هؤلاء البيض من الجنسين من تزوج من غير البيض فبات الأولاد نصف.نصف أي أن نصفهم أمريكي أبيض والنصف الآخر أمريكي صيني أو لاتينو. بالعودة للتاريخ الذي يشكل هذا الواقع يقولون في الولاياتالمتحدةالأمريكية أنهم بلد المهاجرين. وهم في ذلك علي حق. فالذين شيدوا هذا البلد ليصل إلي حالته الحالية خلال هذه الفترة التاريخية الوجيزة نسبيا هم المهاجرون البيض الأوروبيون والسود الأفارقة ثم جاءت بعدهم كل تلك الأجناس التي توجد الآن علي أرض الولاياتالمتحدة. وبالقطع كان يمكن للأمريكيين الأصليين, إذا كانوا قد تركوا للتطور التاريخي ولم يبادوا, أن يشيدوا حضارة عظيمة أخري ولكنها كانت ستكون حضارة مختلفة تعبر عن ثقافة وعن جذور تلك الشعوب الأمريكية, في الشمال والجنوب. وكانت حسب الحفريات التي يتوالي اكتشافها الآن ثقافات خاصة جدا, وربما كانت شكلت أساسا لتنوع ثقافي وإنساني أكثر ثراء. المهم في موضوعنا الآن أن في الولاياتالمتحدةالأمريكية شعب يتجاوز تعداده المئتي مليون نسمة تنتمي غالبيتهم العظمي إلي هذه المجموعة الأساسية من كل المهاجرين. وبجانبهم توجد أقلية ضئيلة للغاية لا تكاد تذكر من بقايا السكان الأصليين. هؤلاء المهاجرون ينصهرون في وعاء جغرافي مقسم إلي خمسين ولاية تشكلت كل منها وانضمت للاتحاد في ظروف سياسية خاصة بدءا من الحرب وصولا إلي الشراء من دول أخري. يشكل كل هؤلاء المهاجرين, الذين بدأوا في الأصل بخمسين مليون أوروبي ثم عدة ملايين من الأفارقة, تنوعا جنسيا وعرقيا كبيرا وباتت غالبيتهم العددية تحاصر المهاجرين الأوائل من البيض ذوي الأصول الأوروبية لتحولهم عقدا زمنيا بعد عقد زمني آخر إلي أقلية بيضاء وسط محيط بشري أسيوي ولاتيني وإفريقي. وقد ظهر هذا بجلاء في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التي أسقطت ميت رومني المرشح الجمهوري وجاءت ب الرئيس باراك أوباما المرشح الديمقراطي ليرأس البلاد لفترة رئاسية ثانية. وبات هذا التحول الآن موضوع مناقشة جادة وحقيقية في أروقة الحزب الجمهوري باعتباره تحولا سياسيا واقتصاديا حقيقيا في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وبالقطع لا يمكن أن نتحدث عن هذه الأغلبية العددية من غير البيض علي أساس أنها كتلة صماء أو علي أساس أنها طبقة اجتماعية واحدة. ولكن يمكن الحديث عن الكتلة الأساسية داخل كل مجموعة بشرية واحدة منها. فضمن المجموعة البشرية ذات الأصول الإفريقية يوجد من هم أعضاء في الحزب الجمهوري بسبب انتمائهم الطبقي. ومنهم من هو ليس عضوا ولكنه يصوت للجمهوريين. وينطبق ذات الشيء علي المجموعات الأخري. فمن اللاتينوز من هم جزء من الرأسمالية الصناعية والمالية الأمريكية وكذلك الآسيويون وخاصة ذوي الأصول الصينية الذين يتميزون, حيثما يتواجدون بالنشاط الاقتصادي الملحوظ. ونحن هنا نتحدث عن كتلة كبيرة, قد تسمي بالطبقة الوسطي بالمفهوم الأمريكي, داخل كل مجموعة بشرية تستطيع بتصويتها أن تحدث التغيير السياسي. في الانتخابات الرئاسية الأخيرة كان مجمل تصويت الأمريكيين البيض يشير إلي أن نسبة59% منهم صوتوا ل رومني في الوقت الذي حصل أوباما علي أصوات39% منهم. في حين أن الأمريكيين الأفارقة أعطوا نسبة6% من أصواتهم ل رومني بينما حصل أوباما علي نسبة93% من أصواتهم.وتتكرر النسب التي حصل عليها أوباما مع كل من اللاتينوز والآسيويين. في حالة الأمريكيين ذوي الأصول الأمريكية اللاتينية قفزت نسبة التصويت ل أوباما إلي71% وانخفضت ل رومني إلي27%. وفي حالة الأمريكيين الآسيويين حصل أوباما علي نسبة73% من أصواتهم في حين حصل رومني علي نسبة26% من تصويتهم. أما بالنسبة لتصويت مجمل النساء الأمريكيات فقد أشير إلي تقدم أوباما. ويعيد المحللون ذلك إلي جانب من السياسة الاجتماعية الداخلية ل أوباما وفي مقدمتها برنامج التأمين الصحي. وأوافق علي هذا الرأي. لأن المرأة بطبيعتها تميل إلي أولويات تخص أسرتها وفي مقدمتها صحة هذه الأسرة. وقد استجاب أوباما لبعض هذه الأوليات, وإن كانت غير مكتملة بسبب تعنت الحزب الجمهوري الرافض لفكرة التأمين وتدخل الدولة لحماية صحة مواطنيها. وحتي اللحظة الأخيرة للحملة الانتخابية استمر رومني يهاجم مشروع التأمين الصحي ويتوعده. لذا حصل أوباما علي نسبة53% من أصوات النساء في حين حصل رومني علي نسبة47% من أصواتهن. وتستمر الانتخابات الأمريكية الأخيرة مفيدة في التدقيق فيها. علنا نستفيد. المزيد من مقالات أمينة شفيق