عندما عرض الرئيس مرسي منذ أسابيع منصب سفير الفاتيكان علي النائب العام, قامت الدنيا ولم تقعد علي ما تتعرض له هيبة القضاء من عدوان. ولكن عندما استقبل النائب العام مؤخرا عددا من ألد خصوم التيار الإسلامي لكي ينال دعمهم وتأييدهم. , لم نسمع أحدا يعترض بكلمة من هؤلاء, الذين ملأوا الدنيا صراخا منذ أسابيع, ومرت الواقعة مرور الكرام علي غالبية الصحف والفضائيات التي نصبت السيرك للرئيس. يؤكد هذا من ناحية, علي أن المعارضة في مصر قائمة علي التربص والتصيد للرئيس والتيار الذي ينتمي إليه.. ومن ناحية أخري, علي أن الحملة علي الجمعية التأسيسية للدستور تسعي لتكرار نفس السيناريو الذي أدي في النهاية إلي حل برلمان الثورة. في المرتين بدأت المسألة بحملة إعلامية شرسة تسفه وتشيطن وتحط من شأن المؤسسة القائمة, وفي المرتين جري إقحام القضاء, وصولا إلي المحكمة الدستورية. الأخطر مما سبق هي المحاولات الجارية منذ فترة لابتزاز الرئيس وتهديده ب مصائب وكوارث إذا لم ينصع, ويشكل جمعية تأسيسية أخري يرضي عنها فريق العلمانيين. هذا الفريق لا يفكر أبدا في الاستقواء بالشعب.. وهذه هي مشكلته الأزلية. لقد بذل أعضاؤه جهودا مضنية للاستقواء بالمجلس العسكري علي الإسلاميين, وفشل رهانهم. ثم حاولوا الاستقواء بالقضاء, ونجحوا في موقعة البرلمان. والآن بدلا من مخاطبة الشعب لإقناعه برفض الدستور الناتج عن هذه الجمعية في الاستفتاء, يحاولون الاستقواء بالرئيس من أجل إسقاط الجمعية ومشروعها للدستور. فقد وجدوا في موقعة إقالة النائب العام فرصة ذهبية لإلحاق هزيمة ثانية بالرئيس, تجعله أكثر قابلية للابتزاز والتهديد. وهم يستثمرون ذلك في المنابر الإعلامية من خلال.. أولا تذكيره بما جري عندما واجههم في موقعتي البرلمان والنائب العام, وأنه لن يتحمل هزيمة ثالثة, أو علي حد تعبير النائب العام نفسه: النظام الحالي أجبن من إصدار قرار بإقالتي( جريدة الصباح10/16).. وثانيا الزعم بأنه وعدهم إبان الانتخابات الرئاسية بتشكيل جمعية ترضيهم, وأنه إن لم يفعل ذلك, فلن يتوقفوا عن ترويعه والمشاغبة عليه من خلال الصحف والفضائيات التي يهيمن حلفاؤهم عليها, وإبتزازه بتهمة حكم المرشد, وأنه لا يتخذ قرارا إلا بإذن المرشد.. وثالثا تهديده بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا دعا الشعب للاستفتاء علي دستور الجمعية الحالية. وفيما يلي أمثلة لما يتردد في الصحف: علي المرشد أن يأمر عددا من الإخوان بالانسحاب حتي يحل محلهم ممثلين عن التيار المدني( العلماني), حتي يجنب مصر مصائب.. إما حل الجمعية أو صراع طويل لن يؤدي إلا لمزيد من الانقسام والفوضي وتعطيل استكمال بناء المؤسسات.. علي الرئيس امتصاص غضب الرافضين له وللجمعية, والضغط علي حزبه وجماعته لإحداث تعديلات في التشكيل بما يرضي المعارضين, وإلا فالقادم سيكون أسوأ, سواء بالنسبة لحياة الناس أو مستقبل الحكم.. الجمعية الحالية ستؤدي إلي صراع سياسي كبير في البلاد يمكن له إذا طال أن يطيح بأي استقرار أو فاعلية لنظامها السياسي. وحتي نتجنب هذا الصراع علي الرئيس أن يفرغ جهده من الآن لتشكيل الجمعية التأسيسية الجديدة, وأن يلتزم بعدم طرح الدستور للاستفتاء ما لم يكن هناك توافق, أو الانتظار لحين فصل المحكمة الدستورية في القضية.. مسودة الدستور باطلة ومخادعة للشعب المصري, الذي أناشده أن يثور ضد من يريدون سرقة الدستور, وأخيرا.. تمرير الدستور بهذه الصياغة يعمق الانقسام في المجتمع وقد تفلت الصراعات عن سلميتها. الاحتقان السياسي بات خطيرا والقنابل الموقوتة كامنة. الانفجار سيناريو محتمل. وعلي الرئيس أن يحسم أمره ما إذا كان رئيسا لكل المصريين أم منحازا للجماعة وحدها. أما برامج التوك شو, فقد قاطعتها منذ شهور. وما أعلمه هو أن ما يقال فيها أخطر مما يكتب في الصحف. إن الجمعية الحالية ليست لقيطة, كما قيل. وإنما هي نتاج أول برلمان للثورة, ومحصلة اختيار نوابه. وأيا كان رأي البعض في هؤلاء النواب وفي أعضاء الجمعية وفي مسودة الدستور, فإن هذا لا يبرر لهم فرض رأيهم والاستبداد به, والاصرار علي جعل هدوء واستقرار البلد رهينة في قبضتهم. لقد حضرت منذ أيام اجتماعا للجمعية كعضو في اللجنة الفنية الاستشارية, ولاحظت أن الاجتماع بدأ بعد45 دقيقة من الموعد المعلن عنه, وأن كل من تحدث لم يلتزم بالوقت المخصص له, ولم يراع حق من وراءه في ترتيب الحديث. نحن شعب واحد تجمعنا المزايا والعيوب نفسها. ولو جاءت جمعية تأسيسية أخري, لن يتحقق عليها توافق, ولن يختلف منتجها كثيرا عن المنتج الحالي. ودعونا لا ننسي أنه طالما ظلت القاهرة مشتعلة بنيران هذا الفريق الرافض للجمعية, ستبقي سيناء مشتعلة بنيران التطرف, وستبقي قلوب سكان المقابر والعشوائيات وأهلنا في الصعيد, وكل من أهملتهم الدولة علي مدار عقود, مشتعلة بنيران الغضب, بعد أن صبروا طويلا دون أن يروا ضوءا في نهاية نفق المرحلة الانتقالية, وأتصورهم ينظرون الآن بتحفز إلي التنابذ المفرط الجاري حول الدستور. لا يجوز لمصري وطني أن يسمح بأن يتحول الدستور إلي عقبة أمام تأمين حدودنا والنهوض بعشوائياتنا وإطلاق مشاريع تنمية سيناء, ولا أن يسمح لبزنس الفضائيات بالترويج لكل ما هو مثير للقلق والاضطراب والفتنة, من أجل اكتناز الملايين. إني أدعو أعضاء الجمعية التأسيسية الكرام ألا يتأثروا بالدعوات المتطرفة التي تخيرنا بين إسقاط الجمعية وإشعال الحرائق.. وأدعوهم أن ينتهوا من الدستور بنهاية هذا الشهر, وألا يضعوا أية قيود زمنية تعوق تعديل أو حذف أي من مواده في المستقبل القريب.. وأنه مهما كانت مشاعر الغضب والاحتقان في نفوس البعض منهم, فعليهم أن يتحملوها ويحتسبوها من أجل مصر, لأن عواقب عدم إتمام المهمة, قد تكون فادحة. كما أدعو الرئيس مرسي ألا يستسلم لمحاولات إبتزازه وتهديده ممن يظنون أنهم وليس الشعب أصحاب القول الفصل, وممن يعتقدون أنه سيتردد كثيرا قبل الدخول معهم في مواجهة ثالثة. وأدعوه إلي طرح الدستور للاستفتاء فور إنتهاء الجمعية منه بكل مزاياه وعيوبه, وألا يتسامح أو يتهاون مع أي بادرة خروج علي القانون وتهديد الأمن من أي طرف سواء أثناء الاستفتاء أو بعد إعلان نتيجته, أيا كانت. إن حكم بلد مثل مصر لا يتحمل تدليل أية فريق أو محايلته من أجل إسترضائه, ويتطلب حزما وشراسة وانضباطا, خاصة في اللحظات الفاصلة كتلك التي نعيشها الآن. المزيد من مقالات صلاح عز